ستقرأون في هذا المبحث الثالث من الفصل الأول من الباب الثالث "الخلافة في الأندلس سيرة الأمير عبد الرحمن بن معاوية بن هشام والملقب بعبد الرحمن الداخل وكيف عمل علي توطيد أمارته هناك وفي سبيل ذلك قتلت وحزت رؤوس آلاف المسلمين الطامعين في الحكم ومنهم أبن أخ عبد الرحمن وجماعة معه من المتآمرين, ومنهم أنصار الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور الذي طمع في إستعادة إمارة الإندلس إلي الحظيرة العباسية, وسترون الكم الهائل من الثورات التي قامت ضد عبد الرحمن الداخل خلال حكمه الذي دام 34 عاما, والتي تم القضاء عليها جميعا وقتل أصحابها وأعوانهم, كما سيأتي ذكره .. تابعونا
.
دراسة تحليلية من كتاب "مآسي الخلافة كنظام للحكم" لمؤلفه الكاتب المفكر عبد المنعم الخن - (الباب الثالث - الخلافة الأموية في الأندلس الفصل الأول - المبحث الثاني/ خلافة عبد الرحمن بن معاوية بن هشام الملقب بعد الرحمن الداخل.
.
وقفنا في المبحث الثاني عندما أراد عبد الرحمن الداخل ألا يحدث خللًا في الصفّ المسلم في هذه الأوقات، بين الأمويين ومحبي الدولة الأموية وبين اليمنيين في ذلك الوقت المليء بالثورات والمعارك الداخلية، إنما كان كل همّه هو تجميع الناس ثم حرب النصارى بعد ذلك، وبالفعل وبعد إحدى عشرة سنة من هذه الأحداث عزل أبا الصباح اليحصبي عن مكانه، وهو الذي كان يرغب في الإنقلاب عليه, وبذلك استطاع أن يتملك زمام الأمور كلها في الأندلس.. دعونا نري
.
عبد الرحمن الداخل وبداية فترة الإمارة الأموية
بعد موقعة المسارة والسيطرة على منطقة قرطبة والجنوب الأندلسي لُقّب عبد الرحمن بن معاوية بعبد الرحمن الداخل؛ لأنه أول من دخل من بني أمية قرطبة حاكمًا، في بلاد الأندلس وأستمر حكمه فيها 34 عاما كما سنرى.
.
ومنذ أن تولّى عبد الرحمن الداخل الأمور في بلاد الأندلس عُرفت هذه الفترة بفترة الإمارة الأموية، وتبدأ من سنة 138هـ - 755 م وتنتهي سنة 316 هـ 928 م وسميت "إمارة" لأنها أصبحت منفصلة عن الخلافة الإسلامية، سواء كانت في عصر الخلافة العباسية أو ما تلاها بعد ذلك من العصور إلى آخر عهود الأندلس.
.
بدأ عبد الرحمن الداخل ينظّم الأمور في بلاد الأندلس، كانت هناك ثورات كثيرة جدًا في كل مكان من أرض الأندلس، وبصبر شديد أخذ عبد الرحمن الداخل يتعامل مع هذه الثورات الواحدة تلو الأخرى، وبحسب ما يتوافق معها أخذ يستميل بعضها ويحارب الأخرى.
.
في أواخر عام 143 هـ، ثار القاسم بن يوسف بن عبد الرحمن الفهري وحليف أبيه رزق بن النعمان الغساني في الجزيرة الخضراء على الأمير عبد الرحمن، الذي وجه إليهما أحد قواده فهزمهما، وفر القاسم وقتل الغساني.
.
ثم ثار هشام بن عروة الفهري صاحب طليطلة، فسار إليه عبد الرحمن وشدد عليه الحصار حتى إضطر إلي طلب الصلح مقابل أخذ ابنه كرهينه عند عبد الرحمن. فقبل عبد الرحمن ذلك. ثم عاد هشام إلي نقض العهد. فغزاه الداخل في العام التالي، وشدد الحصار عليه ودعاه إلي الرجوع فلم يستجيب له. فلما يئس الأمير منه أمر بضرب عنق ابن هشام، وقذف الرأس بالمنجنيق في المدينة، ثم تركه لانشغاله بثورة العلاء بن مغيث اليحصبي
.
عام 146 هـ وبعد حوالي ثمان سنوات من تولي عبد الرحمن الداخل حكم الأندلس ثار عليه العلاء بن مغيث اليحصبي في بلدة باجة بعد أن راسل الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور الذي كان يطمع في استعادة الأندلس، واستطاع أن يجمع حوله الناس والجند من أنصار الدولة العباسية، فاستولى على بلدة شذونة. فأرسل له عبد الرحمن الداخل جيشًا بقيادة مولاه (أي خادمه) بدر، فسيطر على المدينة، فتحرك العلاء بجيشه إلى إشبيلية ودخلها. فخرج عبد الرحمن من قرطبة في جميع قواته إلى بلدة قرمونة وتحصن بها ومعه ثقاة مواليه وخاصته، فسار إليه العلاء وحاصره بها شهرين، عندئذ خرج عبد الرحمن في 700 من رجاله ليرد الهجوم بعد أن خارت قوى جيش العلاء، فهزمهم وقتل العلاء, وأمر عبد الرحمن بحز رأس العلاء ورؤوس أشراف أصحابه، ووضعت فيها صكوك بأسمائهم وحملوا بعضهم إلي أسواق القيروان ليلاً، والبعض الآخر وفيهم رأس العلاء إلي مكة مع بعض التجار الثقات ومعه الرسالة واللواء الذي أرسله المنصور إلى العلاء فوضعوه أمام سرادق المنصور الذي كان يحج ذلك العام. فلما رأي المنصور رأس العلاء انزعج وقال: «الحمد لله الذي جعل بيننا وبين هذا الشيطان بحرًا».
.
ومنذ هذه اللحظة والدولة العباسية لم تفكر لحظةً واحدة في استعادة بلاد الأندلس، بل إن أبا جعفر المنصور الخليفة العباسي هو الذي سمّى عبد الرحمن بن معاوية بصقر قريش وهو اللقب الذي اشتهر به بعد ذلك، فقد كان أبو جعفر المنصور جالسًا مع أصحابه فسألهم: أتدرون من هو صقر قريش؟
فقالوا له كعادة البطانة السوء: بالتأكيد هو أنت ... فقال لهم: لا.
فعددوا له أسماء حتى ذكروا له معاوية وعبد الملك بن مروان من بني أمية
فقال أيضا: لا. ثم أجابهم قائلا:
بل هو عبد الرحمن بن معاوية، دخل الأندلس منفردًا بنفسه، مؤيّدًا برأيه، مستصحبًا لعزمه، يعبر القفر ويركب البحر حتى دخل بلدًا أعجميًا فمصّر الأمصار وجنّد الأجناد، وأقام ملكًا بعد انقطاعه بحسن تدبيره وشدة عزمه. وهكذا كان أبو جعفر المنصور العباسي معجبًا جدًا بعبد الرحمن بن معاوية، وهو ما يمكن أن نسميه إعجاب اضطرار، أو هو إعجاب فرض نفسه عليه.
.
ثم بعث عبد الرحمن مولاه بدر وتمام بن علقمة عام 147 هـ في جيش كثيف إلي طليطلة، فحاصرا هشام بن عروة الفهري حصارًا شديدًا، ومنعا الطعام عن أهل طليطلة، حتى ضج أهل المدينة من الحصار واستثقلوا الحرب، وكاتبوا تمام وبدر وسألوهما الأمان مقابل تسليم ابن عروة وبعض قادته لهما، فقبلا ذلك وحملوهم إلي قرطبة، فحلقت رؤوسهم ولحاهم وألبسوا جببًا صوفية وحملوا علي الحمير، ودخلوا قرطبة علي هذا الحال حيث أمر عبد الرحمن بقتلهم، ليعلن بذلك نهاية تمرد ابن عروة الفهري.
.
وفي عام 149 هـ، ثار على الداخل سعيد اليحصبي في بلدة لبلة، وسار إليه عبد الرحمن بنفسه وأخمد ثورته, ومن بعده في نفس العام، ثار أبي الصباح اليحصبي الذي نقم من عبد الرحمن أن عزله عن ولاية إشبيلية، وهو الذي كان له عونًا وجمع له اليمانية يوم معركة المصارة. لجأ الداخل معه إلى الحيلة، فبعث إليه عبد الله بن خالد يُأمنه. فلما دخلا قرطبة، أمر عبد الرحمن بقتل أبي الصباح. منذئذ، لزم عبد الله بن خالد داره حتى مات لمرارة في نفسه من خداع عبد الرحمن له واستعماله في استدراج أبي الصباح.
.
وفي عام 153 هـ، ثار البربر بزعامة رجل يقال شقيا بن عبد الواحد المكناسي كان معلمًا للصبيان، ثم إدعى بأنه فاطمي، فقتل عامل الأمير على بلدة ماردة ثم استولى على بلدة قورية. فسار إليه عبد الرحمن، ففر منه الفاطمي إلى الجبال ولم يتمكن منه لسنوات، إلى أن انكشف أمره لأصحابه فقتلوه. عندئذ، جاءته رسل مولاه بدر بثورة اليمانية بقيادة عبد الغافر اليحصبي وحيوة بن ملامس الحضرمي. فسيًر إليهم الداخل جيشًا هزمهم، وقتل حيوة، وفرّ عبد الغافر عبر البحر.
.
تلا ذلك محاولة ابن أخيه (أي إبن أخ عبد الرحمن) وإسمه عبيد الله بن أبان بن معاوية وبعض معاونيه الانقلاب علي عمه عبد الرحمن في قرطبة, وكان في ذلك الوقت خارج قرطبة، فراسله مولاه بدر بالخبر وتمكن بدر من القبض عليهم، وأمر عبد الرحمن بضرب عنق أبن أخيه وأعوانه.
.
عام 160هـ وجه عبد الرحمن قوة بقيادة تمام بن علقمة وأبي عثمان لقتال الفاطمي، واقتتلا وهزمهما الفاطمي، إلا أن مقتله كان علي يد رجلين من أصحاب "شقيا بن عبد الواحد" تآمرا عليه وقتلاه بعد ذلك، لتنتهي ثورته.
.
في عام 161هـ، نزل عبد الرحمن بن حبيب الصقلبي بجيشه ساحل بلدة تدمير، فسارع الداخل بمهاجمة ابن حبيب، فاستغاث ابن حبيب بوالي برشلونة سليمان الأعرابي، ولكن هذا الأخير لم ينجده. وبذلك استطاع عبد الرحمن أن يهزم ابن حبيب ويحرق سفنه عند ساحل تدمير, ففر الصقلبي إلى بلدة بلنسية، حيث اغتاله رجل من البربر طمعًا في عطية من عبد الرحمن الداخل.
.
المراجع:
عنان، محمد عبد الله ( طبعة 1997). دولة الإسلام في الأندلس، الجزء الأول. مكتبة الخانجي، القاهرة.
زيتون، محمد محمد ( طبعة 1990). المسلمون في المغرب والأندلس.
نعنعي، عبد المجيد ( طبعة 1986). تاريخ الدولة الأموية في الأندلس – التاريخ السياسي. دار النهضة العربية، بيروت.
السامرائي، خليل إبراهيم وآخرون ( طبعة 2000). تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس. دار الكتاب الجديد المتحدة.
ابن حزم، علي ( طبعة 1987). رسائل ابن حزم الأندلسي. المؤسسة العربية للدراسات والنشر - تحقيق إحسان عباس.
المقري، أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد ( طبعة 1988). نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب - المجلد الأول والثالث. دار صادر، بيروت.