وقال أيضا إنه سمع النبي يقول: " من حدث حديثا هو لله عز وجل رضا فأنا قلته وإن لم أكن قلته "، روى ذلك ابن عساكر في تاريخه. وأخرج الطحاوي عن أبي هريرة: " إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوا به، قلته أم لم أقله، فإني أقول ما يعرف ولا ينكر، وإذا حدثتم
عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا به، فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف ".
روى ذلك وغيره على حين أن الثابت عن النبي أنه قال: " من نقل عني ما لم أقله فليتبوأ مقعده من النار " وقد اضطر عمر أن يذكره بهذا الحديث لما أوغل في الرواية. تدليسه: ذكر علماء الحديث أن أبا هريرة كان يدلس - والتدليس كما عرفوه أن يروي عمن لقيه ما لم يسمعه منه أو عمن عاصره ولم يقله، موهما أنه سمعه منه، والتدليس أنواع كثيرة، وحكمه أنه مذموم كله على الإطلاق، وقد كره التدليس جماعة من العلماء، وكان شعبة أشد الناس إنكارا لذلك حتى قال: لأن أزني أحب إلي من أن أدلس! وقال أيضا: التدليس أخو الكذب.
ومن الحفاظ من جرح من عرف بهذا التدليس من الرواة فرد روايته مطلق وإن أتى بلفظ الاتصال، ولو لم يعرف أنه دلس إلا مرة واحدة. كما نص على ذلك الشافعي رحمه الله. وروى مسلم بن الحجاج عن بسر بن سعيد قال: اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويحدثنا عن كعب الأحبار، ثم يقول فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله! وفي رواية - يجعل ما قاله كعب عن رسول الله، وما قاله رسول الله عن كعب! فاتقوا الله وتحفظوا في الحديث. وقال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلس - أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله، ولا يميز هذا من هذا - ذكره ابن عساكر - وكأن شعبة يشير بهذا إلى حديث " من أصبح جنبا فلا صيام له "، فإنه لما حوقق عليه قال: أخبرنيه مخبر ولم أسمعه من رسول الله. وقال ابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث ": وكان أبو هريرة يقول، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كذا وإنما سمعه من الثقة عنده فحكاه.
أول راوية اتهم في الإسلام:
قال ابن قتيبة في تأويل متخلف الحديث: " إنه لما أتى أبو هريرة من الرواية عنه صلى الله عليه وسلم ما لم يأت بمثله من صحبه من جلة أصحابه والسابقين الأولين اتهموه وأنكروا عليه وقالوا: كيف سمعت هذا وحدك؟ ومن سمعه معك؟ وكانت عائشة رضي الله عنها أشدهم إنكارا عليه لتطاول الأيام بها وبه وممن اتهم أبا هريرة بالكذب، عمر وعثمان وعلي وغيرهم وبذلك كان - كما قال الكاتب الإسلامي الكبير
مصطفى صادق الرافعي - " أول راوية اتهم في الإسلام ". ولما قالت له عائشة: إنك لتحدث حديثا ما سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم أجابها بجواب لا أدب فيه ولا وقار، إذ قال لها - كما رواه ابن سعد والبخاري وابن كثير وغيرهم: شغلك عنه صلى الله عليه وسلم المرآة والمكحلة! وفي رواية - ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب، ولكن أرى ذلك شغلك!! على أنه لم يلبث أن عاد فشهد بأنها أعلم منه، وأن المرآة والمكحلة لم يشغلاها، ذلك أنه لما روى حديث " من أصبح جنبا فلا صوم عليه " أنكرت عليه عائشة هذا الحديث فقالت: إن رسول الله كان يدركه الفجر وهو جنب من غير احتلام فيغتسل ويصوم، وبعثت إليه بأن لا يحدث بهذا الحديث عن رسول الله، فلم يسعه إزاء ذلك إلا الإذعان.
وقال: إنها أعلم مني، وأنا لم أسمعه من النبي، وإنما سمعته من الفضل بن العباس - فاستشهد ميتا وأوهم الناس أنه سمع الحديث من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث. وكان علي رضي الله عنه سيئ الرأي فيه، وقال عنه ألا إنه أكذب الناس - أو قال: أكذب الأحياء على رسول لأبو هريرة. ولما سمع أنه يقول: حدثني خليلي! قال له: متى كان النبي خليلك؟ ولما روى حديث: متى استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يضعها في الإناء، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده - لم تأخذ به عائشة وقالت: كيف نصنع بالمهراس. ولما سمع الزبير أحاديثه قال: صدق، كذب.
وعن أبي حسان الأعرج أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله عنها فقالا: إن أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار "، فطارت شفقا ثم قالت: كذب والذي أنزل القرآن على أبي القاسم، من حدث بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! إنما قال رسول الله - كان أهل الجاهلية يقولون: إن الطيرة في الدابة والمرأة والدار، ثم قرأت: " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ".
وأنكر عليه ابن مسعود قوله: من غسل ميتا، ومن حمله فليتوضأ - وقال فيه قولا شديدا ثم قال: يا أيها الناس لا تنجسوا من موتاكم. وروى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: أقلد من كان من القضاة المفتين من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعبادلة الثلاثة ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر - وفي رواية - أقلد جميع الصحابة ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر (أنس بن مالك وأبو هريرة وسمرة بن جندب) فقيل له في ذلك فقال: أما أنس فاختلط في آخر عمره وكان يستفتى فيفتي من عقله، وأنا لا أقلد عقله، وأما أبو هريرة فكان يروي كل ما سمع من غير أن يتأمل في المعنى ومن غير أن يعرف الناسخ من المنسوخ ".
وروى أبو يوسف قال: قلت لأبي حنيفة: الخبر يجيئني عن رسول الله يخالف قياسنا، ما نصنع به؟ فقال: إذا جاءت به الرواة الثقات عملنا به وتركنا الرأي. فقلت: ما تقول في رواية أبي بكر وعمر؟ قال ناهيك بهما. فقلت: وعلي وعثمان؟ قال: كذلك. فلما رآني أعد الصحابة - قال: والصحابة كلهم عدول ما عدا رجالا. وعد منهم أبا هريرة وأنس بن مالك.