صدق والذي أنزل التوراة على موسى، والفرقان على محمد، لو أن رجلا ركب حقة أو جذعة ثم دار بأعلى تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرما! إن الله تعالى غرسها
بيده ونفخ فيها من روحه، وإن أفنانها لمن وراء أستار الجنة وما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل هذه الشجرة. وهكذا يتعاونان على نشر مثل هذه الخرافات، ومن العجيب أن يروي هذا الخبر الغريب وهب بن منبه في أثر غريب فيرجع إليه من أراده. وفي فصل الاسرائيليات الذي مر بك أحاديث كثيرة من مثل ذلك. ولما روى أن رسول الله قال: " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا ودما خير من أن يمتلئ شعرا " قالت عائشة: لم يحفظ إنما قال: ".. من أن يمتلئ شعرا هجيت به ".
حفظ الوعائين:
أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: حفظت عن رسول الله وعاءين فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم.
وهذا الحديث معارض بحديث رواه الجماعة بألفاظ متقاربة عن علي رضي الله عنه، فقد سئل: هل عندكم كتاب؟ فقال: لا، إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. وكذلك يعارضه ما رواه البخاري عن عبد العزيز بن رفيع قال: دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس فقال له شداد، أترك النبي من شيء؟ فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين. ولو كان هناك شيء يؤثر به النبي (صلى الله عليه وسلم) أحد خواصه ويحجبه عن سائر أصحابه، لكان علي أول الناس جميعا بذلك، ذلك بأن ربيبه وابن عمه وأول من أسلم وزوج ابنته، ولم يفارقه لا في سفر ولا في حضر، وشهد معه المشاهد كلها - سوى تبوك - ولما استخلفه النبي فيها على المدينة قال له علي: أتخلفني في النساء والصبيان؟ فقال له النبي: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟! إلا أنه لا نبي بعدي، رواه البخاري والترمذي.
حقا كان علي أولى الناس جميعا بذلك، فإن لم يكن علي فالصديق أبو بكر أو عمر، أو أبو عبيدة أو الزبير حواريه وابن عمته أو عائشة أحب أزواجه إليه بعد خديجة، أو العاقلة الرزينة أم سلمة أو ابن مسعود الذي قال له النبي: أذنك على أن ترفع الحجاب وتسمع سوادي أي سراري، حتى كانوا لشدة ملازمته للنبي (صلى الله عليه وسلم) لا يرون إلا أنه رجل من أهل بيته صلى الله عليه وسلم، وعرف بين الصحابة جميعا بأنه صاحب السواد والوساد، الذي لا يعرفه غيره رضي الله عنهم جميعا.
كان هؤلاء هم أولى الناس بأن يؤثرهم النبي بما لا يريد أن يظهره لأحد من سائر أصحابه، وإذا كان هناك أمر يريد أن يسره لأحد من خواصه. ومن هو أبو هريرة حتى يؤثره النبي بشيء يخصه به ويكتمه ويخفيه عن أصفيائه وأحبابه وأقرب الناس إليه؟! إنه لم يكن له أي فضل يدنو به إلى النبي - ولا عد بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى من أية طبقة من طبقات الصحابة، فلا هو من السابقين الأولين ولا من المهاجرين، ولا من الأنصار، ولا من المجاهدين بأموالهم أو بأنفسهم ولا في النقباء، ولا من العرفاء، ولا من الكملة في الجاهلية وأول الإسلام، ولا من شعراء النبي الذين نافحوا عنه ولا من المفتين، ولا من القراء - الذين حفظوا القرآن - ولا جاء في فضله حديث عن الرسول ، وكل ما عرف عنه أنه كان من أهل الصفة لا أكثر ولا أقل!
تشيع أبي هريرة لبني أمية:
علمت مما كشفناه لك من تاريخ أبي هريرة أنه لم يصاحب النبي إلا على ملء بطنه، كما ذكر هو مرارا عن نفسه، وأنه قد اتخذ الصفة ملاذا له لفقره، يأكل فيها كما يأكل سائر أهلها، أو يأكل عند النبي أو عند أحد أصحابه. ومن كان هذا شأنه لا يكون ولا جرم إلا من عامة الصحابة لا شأن له ولا خطر، وقد ظل على ذلك زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر - ثم أخذ يظهر في زمن عثمان بعد انزوائه، ويبدو للناس بعد خفائه.
ولما شبت نار الحزب بين علي رضي الله عنه وبين معاوية، وإن شئت فقل لما انبعث الصراع بين الأموية والهاشمية بعد أن توارى - فرقا من القوة - في زمن النبي وخليفتيه أبي بكر وعمر، وانقسم المسلمون فرقا اتجه أبو هريرة إلى الناحية التي يميل إليها طبعه، وتتفق مع هوى نفس - وهي ناحية معاوية - إذ كانت تملك من أسباب السلطان والترف والمال والنعيم ما لم تملك ناحية على التي ليس فيها إلا الفقر والجوع والزهد - وليس بغريب على من نشأ نشأة أبي هريرة وعاش عيشته، أن يتنكب الطريق التي تؤدي إلى علي، وأن يتخذ سبيله إلى معاوية ليشبع نهمه من ألوان موائده الشهية، ويقضي وطره من رفده وصلاته وعطاياه السنية. وإذا كان قد بلغ من فاقة أبي هريرة وجوعه أن يخر مغشيا عليه، فيضع الناس أرجلهم على عنقه! فهل تراه يدع دولة بني أمية ذات السلطان العريض والأطعمة الناعمة، وينقلب إلى علي الزاهد الفقير الذي كان طعامه القديد؟ إن هذا لمما تأباه الطباع الإنسانية، ولا يتفق والغرائز النفسية! اللهم إلا من عصم ربك، وقليل ما هم. ولقد عرف بنو أمية صنيعه معهم، وقدروا موالاته لهم، فأغدقوا عليه من أفضالهم، وغمروه برفدهم وأعطيتهم! فلم يلبث أن تحول حاله من ضيق إلى سعة، ومن شظف العيش إلى دعة، ومن فقر إلى ثراء، وبعد أن كان يستر جسمه بنمرة بالية صار يلبس الخز والكتان الممشق. ولقد كانت أول لفتة من عين الأمويين إلى أبي هريرة لقاء مناصرته إياهم أن ولاه بسر بن أرطأة على المدينة بعد أن بعثه معاوية إلى أهل الحجاز يفعل فعلاته بهم وبأموالهم وذراريهم - وكذلك كان مروان ينيبه عنه على ولاية المدينة، ثم زادت أياديهم عليه فبنوا له قصرا بالعقيق وأقطعوه أرضا بالعقيق وبذي الحليفة، ولم يكتفوا بذلك بل زوجوه بسرة بنت غزوان أخت الأمير عتبة بن غزوان وهي التي كان يخدمها أيام عريه وفقره بطعام بطنه.
ولقد استخفه أشره وزهوه، ونم عليه أصله ونحيزته، فخرج عن حدود الأدب والوقار مع هذه السيدة الكريمة، فكان يقول بعد هذا الزواج الذي ما كان ليحلم به: " إني كنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني، فكنت إذا ركبوا سقت بهم وإذا نزلوا خدمتهم - والآن تزوجتها، فأنا الآن أركب فإذا نزلت خدمتني! " ويقول: وكانت إذا أتت على مكان سهل نزلت فقالت لا أريم حتى تجعل لي عصيدة! فها أنا إذا أتيت على نحو من مكانها قلت لها: لا أريم حتى تجعلي لي عصيدة! ومما أخرجه ابن سعد أنه قال: أكريت نفسي من ابنة غزوان على طعام بطني وعقبة رجلي.. فكانت تكلفني أن أركب قائما وأورد حافيا، فلما كان بعد ذلك زوجنيها الله فكلفتها أن تركب قائمة وأن تورد حافية.
ولم يكن ما قدم أبو هريرة لمعاوية جهادا بسيفه أو بماله، وإنما كان جهاده أحاديث ينشرها بين المسلمين يخذل بها أنصار علي ويطعن فيها عليه، ويجعل الناس يبرؤون منه، ويشيد بفضل معاوية ودولته. وقد كان مما رواه أحاديث في فضل عثمان ومعاوية وغيرهما ممن يمت بأواصر القربى إلى آل أبي العاص وسائر بني أمية. روى البيهقي عنه أنه لما دخل دار عثمان وهو محصور، استأذن في الكلام ولما أذن له قال: إني سمعت رسول الله يقول، إنكم ستلقون بعدي فتنة واختلافا، فقال له قائل من الناس فمن لنا يا رسول الله؟.. أو ما تأمرنا؟ فقال: عليكم بالأمين وأصحابه، وهو يشير إلى عثمان، وقد أورده أحمد بسند جيد. ولما نسخ عثمان المصاحف دخل عليه أبو هريرة فقال: أصبت ووفقت! أشهد لسمعت رسول الله يقول: إن أشد أمتي حبا لي، قوم يأتون من بعدي يؤمنون ولم يروني، يعملون بما جاء في الورق المعلق.. حتى رأيت المصاحف. قال فأعجب ذلك عثمان، وأمر لأبي هريرة بعشرة آلاف. وهذا الحديث من غرائبه، وهو ينطق ولا ريب بأنه ابن ساعته. ومما وضعه في معاوية ما أخرجه الخطيب عنه: ناول النبي صلى الله عليه وسلم معاوية سهما فقال: خذ هذا السهم حتى تلقاني به في الجنة.