وعن إبراهيم النخعي قال: كان أصحابنا يدعون من حديث أبي هريرة. ورواية الأعمش عنه - ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة! وقال الثوري عن منصور عن إبراهيم: كانوا يرون في أحاديث رسول الله شيئا، وما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة إلا ما كان من حديث صفة
جنة أو نار، أو حث على عمل صالح، أو نهى عن شر جاء في القرآن.
وروى أبو شامة عن الأعمش قال: كان إبراهيم صحيح الحديث، فكنت إذا سمعت الحديث أتيته فعرضته عليه، فأتيته يوما بأحاديث من حديث أبي صالح عن أبي هريرة فقال: دعني من أبي هريرة! إنهم كانوا يتركون كثيرا من حديثه. وقال أبو جعفر الإسكافي - وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي الرواية، ضربه عمر وقال: أكثرت من الحديث وأحر بك أن تكون كاذبا على رسول الله. وقال ابن الأثير: أما رواية أبي هريرة فشك فيها قوم لكثرتها.
وفي الأحكام للآمدي: أنكر الصحابة على أبي هريرة كثرة روايته وذلك لأن الإكثار لا يؤمن معه اختلاط الضبط الذي لا يعرض لمن قلت روايته. وجرت مسألة المصراة في مجلس الرشيد فتنازع القوم فيها، وعلت أصواتهم فاحتج بعضهم بالحديث الذي رواه أبو هريرة، فرد بعضهم الحديث وقال: أبو هريرة متهم فيما يرويه، ونحا نحوه الرشيد.
أخذه عن كعب الأحبار:
ذكر علماء الحديث في باب " رواية الصحابة عن التابعين، أو رواية الأكابر عن الأصاغر " أن أبا هريرة والعبادلة ومعاوية وأنس وغيرهم، قد رووا عن كعب الأحبار اليهودي الذي أظهر الإسلام خداعا وطوى قلبه على يهوديته - ويبدو أن أبا هريرة كان أكثر الصحابة انخداعا به، وثقة فيه، ورواية عنه وعن إخوانه، كما كان أكثرهم رواية للحديث، ويتبين من الاستقراء أن كعب الأحبار قد سلط قوة دهائه على سذاجة أبي هريرة لكي يستحوذ عليه وينيمه ليلقنه كل ما يريد أن يبثه في الدين الإسلامي من خرافات وأوهام، وكان له في ذلك أساليب غريبة، وطرق عجيبة. فقد روى الذهبي في طبقات الحفاظ - في ترجمة أبي هريرة - أن كعبا قال فيه - أي في أبي هريرة - ما رأيت أحدا لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة!! فانظر مبلغ دهاء هذا الكاهن ومكره بأبي هريرة الذي يتجلى في درس تاريخه أنه كان رجلا فيه غفلة وغرة! إذ من أين يعلم أبو هريرة ما في التوراة وهو لم يعرفها، ولو عرفها لما استطاع أن يقرأها لأنها كانت باللغة العبرية وهو لا يستطيع أن يقرأ حتى لغته العربية، إذ كان أميا لا يقرأ ولا يكتب. ومما يدلك على أن هذا الحبر الداهية قد طوى أبا هريرة تحت جناحه حتى جعله يردد كلام هذا الكاهن بالنص ويجعله حديثا مرفوعا إلى النبي ما نورد لك شيئا منه: روى البزار عن أبي هريرة أن النبي قال: إن الشمس والقمر ثوران في النار يوم القيامة! فقال الحسن: وما ذنبهما؟ فقال:
أحدثك عن رسول الله وتقول ما ذنبهما؟
وهذا الكلام نفسه قد قاله كعب بنصه، فقد روى أبو يعلى الموصلي، قال كعب: يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في جهنم يراهما من عبدهما. وروى الحاكم في المستدرك والطبراني - ورجاله رجال الصحيح - عن أبي هريرة: أن النبي قال: إن الله أذن لي أن أحدث عن ديك رجلاه في الأرض وعنقه مثبتة تحت العرش وهو يقول: سبحانك ما أعظم شأنك! قال: فيرد عليه ما يعلم ذلك من حلف بي كاذبا. وهذا الحديث من قول كعب الأحبار ونصه: إن لله ديكا عنقه تحت العرش وبراثنه في أسفل الأرض فإذا صاح صاحت الديكة فيقول: سبحان القدوس الملك الرحمن لا إله غيره.
وروى أبو هريرة أن رسول الله قال: النيل وسيحان وجيحان والفرات من أنهار الجنة، وهذا القول نفسه رواه كعب إذ قال: أربعة أنهار الجنة وضعها الله عز وجل في الدنيا فالنيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة، وسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن في الجنة. وقال ابن كثير في تفسيره إن حديث أبي هريرة في يأجوج ومأجوج ونصه كما رواه أحمد عن أبي هريرة " إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذين عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعودون... إلخ، وقد روى أحمد هذا الحديث عن كعب - قال ابن كثير لعل أبا هريرة تلقاه من كعب فإنه كان كثيرا ما كان يجالسه ويحدثه - وبين في مواضع كثيرة من تفسيره ما أخذه أبو هريرة من كعب، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن الله خلق آدم على صورته - وهذا الكلام قد جاء في الإصحاح الأول من التوراة (العهد القديم) ونصه هناك: وخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه.
ولما ذكر كعب صفة النبي في التوراة: قال أبو هريرة في صفته صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا سخابا في الأسواق - وهذا هو نص كلام كعب كما أوردناه من قبل.
وروى مسلم عن أبي هريرة: أخذ رسول الله بيدي! فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد! وخلق الشجر يوم الاثنين! وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء! وبث فيها الدواب يوم الخميس! وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق من آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل. وقد روى هذا الحديث كذلك أحمد والنسائي عن أبي هريرة!! وقد قال البخاري وابن كثير وغيرهما إن أبا هريرة قد تلقى هذا الحديث عن كعب الأحبار لأنه يخالف نص القرآن في أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام. ومن العجيب أن أبا هريرة قد صرح في هذا الحديث (بسماعه) من النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قد أخذ بيده حين حدثه به - وإني لأتحدى الذين يزعمون أنهم على شيء من علم الحديث عندنا، وجميع من هم على شاكلتهم، في غير بلادنا أن يحلوا لنا هذا المشكل. إن الحديث صحيح السند على قواعدهم - لا خلاف في ذلك - وقد رواه مسلم في صحيحه ولم يصرح بسماعه من النبي فقط، بل زعم أن رسول الله قد أخذ بيده وهو يحدثه به، وقد قضى أئمة الحديث بأن هذا الحديث مأخوذ عن كعب الأحبار وأنه مخالف للكتاب العزيز، فمثل هذه الرواية تعد ولا ريب كذبا صراحا، وافتراء على رسول الله، فما حكم من يأتي بها؟ وهل تدخل تحت حكم حديث الرسول: من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار؟ أم هناك مخرج لراوي هذا الحديث بذاته! إني والله لفي حاجة إلى الانتفاع بعلمهم في هذا الحديث وحده الذي يكشف ولا ريب عن روايات أبي هريرة التي يجب الاحتياط الشديد في تصديقها!
وقد بلغ من دهاء كعب الأحبار واستغلاله لسذاجة أبي هريرة وغفلته، أن كان يلقنه ما يريد بثه في الدين الإسلامي من خرافات وترهات حتى إذا رواها أبو هريرة عاد هو فصدق أبا هريرة، وذلك ليؤكد هذه الاسرائيليات وليمكن لها في عقول المسلمين - كأن الخبر قد جاء عن أبي هريرة وهو في الحقيقة عن كعب الأحبار.
وإليك مثلا من ذلك نختم به ما ننقله من الأحاديث التي رواها أبو هريرة عن النبي، وهي في الحقيقة من الاسرائيليات حتى لا يطول بنا القول: روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، اقرأوا إن شئتم " وظل ممدود ".