كان أبو هريرة يلقب " بشيخ المضيرة " وقد نالت هذه المضيرة من عناية العلماء والكتاب والشعراء ما لم ينله مثلها من أصناف الحلوى، وظلوا يتندرون بها، ويغمزون أبا هريرة قرونا طويلة من أجلها، وإليك بعض ما أرسلوه
فيها.
فيها.
قال الثعالبي في كتابه " ثمار القلوب في المضاف والمنسوب " ما يلي: شيخ المضيرة: كان أبو هريرة رضي الله عنه على فضله واختصاصه بالنبي (صلى الله عليه وسلم) مزاحا أكولا، وكان مروان بن الحكم يستخلفه على المدينة فيركب حمارا قد شد عليه برذعة فيلقى الرجل فيقول: الطريق! الطريق! قد جاء الأمير.. وكان يدعي الطب... وبعد أن ذكر الثعالبي شيئا من طبه وكله طعام يشفي داء الأمعاء، ويداوي نهم البطن، قال: وكان يعجبه المضيرة جدا فيأكل مع معاوية، فإذا حضرت الصلاة صلى خلف علي رضي الله عنه، فإذا قيل له في ذلك قال: مضيرة معاوية أدسم وأطيب، والصلاة خلف علي أفضل، وكان يقال له " شيخ المضيرة " وختم الثعالبي قوله ببيتين لشاعر هجا فيهما أبا هريرة أعرضنا عنهما.
وعقد بديع الزمان الهمذاني مقامة خاصة - من مقاماته - لهذه المضيرة، غمز فيها أبا هريرة غمزة أليمة فقال: حدثنا عيسى بن هشام قال: كنت بالبصرة ومعي أبو الفتح الإسكندري رجل الفصاحة يدعوها فتجيبه، والبلاغة يأمرها فتطيعه، وحضرنا معه دعوة بعض التجار، فقدمت إلينا مضيرة تثنى على الحضارة، وتترجرج في الغضارة، وتؤذن بالسلامة، وتشهد لمعاوية رحمه الله بالإمامة... وقال أستاذنا الإمام محمد عبده في شرح ذلك: " ومعاوية ادعى الخلافة بعد بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلم يكن من يشهد له بها في حياة علي إلا طلاب اللذائذ، وبغاة الشهوات، فلو كانت هذه المضيرة من طعام معاوية لحملت آكليها على الشهادة له بالخلافة، وإن كان صاحب البيعة الشرعية حيا - وإسناد الشهادة إليها لأنها سببها الحامل عليها.
والإمامة والخلافة في معنى واحد " وفي الأساس لجار الله: علي مع الحال المضيرة، خير من معاوية مع المضيرة. وأخرج أبو نعيم في الحلية قال: كان أبو هريرة يطوف بالبيت هو يقول: ويل لي بطني، إذا أشبعته كظني، وإن أجعته سبني، ورواية ابن كثير في البداية والنهاية: أضعفني.وفي خاص الخاص للثعالبي: كان أبو هريرة يقول: ما شممت رائحة أطيب من رائحة الخبز الحار، وما رأيت فارسا أحسن من زبد على تمر. قد جعل أبو هريرة الأكل من المروءة، فقد سئل: ما المروءة؟ قال: تقوى الله وإصلاح الصنيعة، والغداء والعشاء بالأفنية. وقد أضربنا عن أخبار كثيرة لأن في بعضها ما يزيد في إيلام بعض الناس.
حديث زر غبا تزدد حبا:
قال رسول صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة ذات يوم: زر غبا تزدد حبا، وقد كان صلوات الله عليه نعم المؤدب لأصحابه، وكان دائما يتولاهم بحكمته، ويغرس فيهم مكارم أخلاقه بسيرته، وما كان له (صلى الله عليه وسلم) أن يذر مثل أبي هريرة على ما كان عليه من غشيان البيوت في كل وقت، يقبله هذا ويصده ذاك، من غير أن يؤدبه بأدبه العالي، وكان سبب ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال له: أين كنت أمس يا أبا هريرة؟ قال زرت أناسا من أهلي، فقال يا أبا هريرة: زر غبا تزدد حبا. وقد ذكر أبو حيان التوحيدي في كتابه " الصداقة والصديق " قال أبو هريرة: لقد دارت كلمة العرب " زر غبا تزدد حبا " إلى أن سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) " ولقد قالها لي ". قال العسجدي: " ليست هذه الكلمة محمولة على العام، ولكن لها مواضع يجب أن تقال فيها، لأن الزائر يستحقها! ألا ترى أنه صلوات الله عليه لا يقول ذلك لأبي بكر، ولا لعلي بن أبي طالب وأشباههما، فأما أبو هريرة فأهل ذاك! لبعض الهنات التي يلزمه أن يكون مجانبا لها، وحائدا عنها ".
وهنات أبي هريرة التي يغمزه بها العسجدي، أنه كان لنهمه يغشي بيوت الصحابة في كل وقت، وكان بعضهم يزور عنه، وينزوي منه، فأراد الرسول أن يلقي عليه درسا في أدب الزيارة وغشيان البيوت، فذكر له المثل العربي " زر غبا تزدد حبا ". وكان صلوات الله عليه لا يفتأ يتعهد أصحابه بالتأديب وتحرى حسن الخلق.
مزاحه وهذره:
أجمع مؤرخو أبي هريرة على أنه كان مزاحا مهذارا، يتودد إلى الناس ويسليهم بكثرة الحديث، والإغراب في القول ليشتد ميلهم إليه، ويزداد إقبالهم عليه، وإليك بعض ما رووه في ذلك. قالت عنه عائشة، وهي أعلم الناس به لامتداد العمر بهما، في حديث المهراس: إنه كان رجلا مهذارا.
التهكم به:
ولقد كانوا يتهكمون برواياته ويتندرون عليها لما تفنن فيها وأكثر منها. فعن أبي رافع: أن رجلا من قريش أتى أبا هريرة في حلة وهو يتبختر فيها، فقال يا أبا هريرة: إنك تكثر الحديث عن رسول الله، فهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئا؟!! فقال سمعت أبا القاسم يقول: إن رجلا ممن كان قبلكم بينما هو يتبختر في حلة، إذ خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة، فوالله ما أدري لعله كان من قومك أو من رهطك. ويبدو من سؤال هذا الرجل أنه لم يكن مستفهما وإنما كان متهكما، إذ لم يقل له: إنك تحفظ أحاديث رسول الله! وإنما قال: تكثر الحديث عن رسول الله، وسياق الحكاية يدل كذلك على أنه كان يهزأ به، ويسخر منه.
كثرة أحاديثه:
أجمع رجال الحديث على أن أبا هريرة كان أكثر الصحابة حديثا عن رسول الله! على حين أنه لم يصاحب النبي إلا عاما وتسعة أشهر! وقد ذكر أبو محمد ابن حزم أن مسند بقي بن مخلد قد احتوى من حديث أبي هريرة على 5374 روى البخاري منها 446.
وقد قال هو عن نفسه - كما روى البخاري - ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فقد كان يكتب ولا أكتب! ولو بحثنا عن كل ما رواه ابن عمرو هذا لوجدناه 700 حديث عند ابن الجوزي وفي مسند أحمد 722 روى البخاري منها سبعة ومسلم 20، وقد أفزعت كثرة رواية أبي هريرة عمر بن الخطاب فضربه بالدرة وقال له: أكثرت يا أبا هريرة من الرواية، وأحر بك أن تكون كاذبا على رسول الله. ثم هدده وأوعده إن لم يترك الحديث عن رسول الله فإنه ينفيه إلى بلاده.
وقد أخرج ابن عساكر من حديث السائب بن يزيد: لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس. ومن أجل ذلك كثرت أحاديثه بعد وفاة عمر وذهاب الدرة، إذ أصبح لا يخشى أحدا بعده. ومن قوله في ذلك: إني أحدثكم بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر لضربني بالدرة - وفي رواية لشج رأسي. وعن الزهري عن أبي سلمة: سمعت أبا هريرة يقول: ما كنا نستطيع أن نقول قال رسول الله حتى قبض عمر! ثم يقول: أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي؟ أما والله إذن لأيقنت أن المخفقة ستباشر ظهري، فإن عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله. وقد قال الفقيه المحدث السيد رشيد رضا رحمه الله في ذلك: لو طال عمر عمر حتى مات أبو هريرة لما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة ، وقال عن أحاديثه المشكلة: " لا يتوقف على شيء منها إثبات أصل من أصول الدين ".
كيف سوغ كثرة الرواية!
كان أبو هريرة يسوغ كثرة الرواية عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بأنه ما دام لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، فإنه لا بأس من أن يروى. وقد أيد صنيعه هذا بأحاديث رفعها إلى النبي، ومنها ما رواه الطبراني في الكبير عن أبي هريرة أن رسول الله قال: " إذا لم تحلوا حراما ولم تحرموا حلالا وأصبتم، المعنى فلا بأس ".