ستقرأون في هذا الفصل الـ 29 .. كثيرا من الأحداث في عهد الخليفة العباسي التاسع والعشرون "المسترشد بالله", الذي كان ذا دين ورأي وشهامة وشجاعة , والذي ملأ ربوع ملكه عدلا وإنصافا، وأمن الناس في عهده على أنفسهم وأموالهم إلا أن متاعب الخليفة المسترشد بالله مع السلاجقة ونقض عهودهم وخيانة الأمراء الأتراك , وغدر أصحاب مذهب الباطنية أدي إلي مقتله علي يد هؤلاء الباطنية .. تابعونا
.
دراسة تحليلية من كتاب "مآسي الخلافة كنظام للحكم" لمؤلفه الكاتب المفكر عبد المنعم الخن - (الباب الثاني - الخلافة العباسية الفصل التاسع والعشرون/ خلافة عبد الله المسترشد بالله)
.
من هو الخليفة المسترشد بالله ؟...
هو المسترشد بالله أبو منصور الفضل بن المستظهر بالله أحمد بن المقتدي بأمر الله ,
وهو الخليفة العباسي التاسع والعشرون في ترتيب خلفاء بني العباس , ولد في بغداد في 4 ربيع الاول 485ه الموافق 14/4/1092م , وامه هي ام فضل التركية, ودامت خلافته من عام 512ه الموافق 1118م الى ان قتل في عام 529ه الموافق 1135م.
نشأ الخليفة المسترشد بالله نشأة دينية، وتتلمذ منذ صغره على نخبة من أرفع علماء بغداد، مثل أبي الحسن بن العلاف وأبي القاسم بن بيان، بالإضافة إلى مؤدبه أبي البركات بن السيبي، فأضحى أديبا متمكنا وخطيبا مفوها وعابدا زاهدا، وصفته كتب التاريخ بأنه "خليق للإمامة" وقلّ نظيره بين الأمراء.
.
سماته وصفاته:
كان للخليفة المسترشد بالله خط بديع، ونثر صنيع، ونظم جيَّد، مع دين ورأي وشهامة وشجاعة، وكان خليقاً للإمامة، قليل النظير، كان يتنسك في أوَّل زمنه، ويلبس الصوف، ويتعبد، وختم القرآن، وتفقه، ولم يكن من الخلفاء من كتب أحسن منه، وكان يستدرك على كُتَّابه، ويصلح أخطاء في كتبهم.
كان ذا همة عالية وشهامة زائدة وكان مقداماً ذو رأي سديد وهيبة وبأس، شيد أركان الشريعة وطرز أكمامها
قال محمد بن علي بن العمراني في كتاب (الانباء في تاريخ الخلفاء): فحل بنى العباس ونجيبهم وفاضلهم وكاتبهم وأشجعهم... عاش سعيدا ومات شهيدا.
تمتع بنثر جميل وشعر متين ومن أقواله في خطبة أحد الأعياد:
الله أكبر ما سبحت الأنواء وأشرق الضياء وطلعت ذكاء وعلت على الأرض السماء.
الله أكبر ما هجع سحاب ولمع سراب وأنجح طلاب وسر قادماً إياب.
قال ابو عبد الله شمس الدين الذهبي في كتاب (سير اعلام النبلاء): كان أشقر أعطر أشهل, خفيف العارضين.
.
توليه الخلافة:
تولى الخلافة بعد وفاة ابيه الخليفة احمد المستظهر في يوم الاربعاء 23ربيع الآخر 512ه الموافق 14/8/1118م, وتمت مراسم المبايعة في اليوم التالي, وخطب له على المنابر وقد كان ولي العهد من مدة ثلاث وعشرين سنة، وكان الذي أخذ البيعة له قاضي القضاة أبو الحسن الدّامغاني , وكان المسترشد بالله العباسي في أول خلافته تنسك وانفرد بالعبادة، وكان جميل الخط وأشتهر بشاهمته وشجاعته.
.
حدث في عهده:
ملأ ربوع ملكه عدلا وإنصافا، وأمن الناس في عهده على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم. يصفه المؤرخون بأنه كان شهما نبيلا ذا همة عالية، لا يكل من السهر على أمور الرعية ليل نهار إلا انه ورث دولة تعاني من كثرة المحاولات الانفصالية في الأقاليم البعيدة عن مركز الخلافة في بغداد.
قال السيوطي: قاد الحروب بنفسه وغزا عدة مرات ونصره الله على أعدائه أكثر من مرة وكانت أيامه مكدّرة بتشويش المخالفين، وكان يخرج بنفسه لدفع ذلك ومباشرته
.
قام الخليفة المسترشد بالله بأعمال إصلاحية جذبت إليه تأييد الناس، ثم دعاهم للجهاد ضد المتمردين الذين عاثوا فساداً في بغداد وما حولها وبخاصة دبيس بن صدقة صاحب الحلة ودخلت أعداد كبيرة تحت راية الخليفة الذي قادهم ضد دبيس وانتصر عليه في عام 526هـ، وفي عهد الخليفة المسترشد بالله بدأت حركة اليقظة الشعبية العامة في بغداد، والتي كان من زعمائها الشيخ عبد القادر الجيلاني.
.
حصار الخليفة المسترشد بالله للموصل:
حاصر الخليفة المسترشد بالله الموصل قرابة ثلاثة شهور، ولم تجد نفعاً عروض عماد الدين زنكي بدفع الأموال للخليفة مقابل أن يفك الحصار عن هذه المدينة، ولما أدرك الخليفة عدم جدوى الحصار عاد إلى بغداد , إلا أن عماد الدين زنكي خشي مغبة خلافه مع الخلافة العباسية، فأراد أن يصلح ما أفسده سابقاً بعدائه لها، فأرسل في سنة 528هـ إلى الخليفة المسترشد بالله أحد قضاة الموصل، ومعه التحف والهدايا والخيل والسلاح طالباً الصلح، فوافق الخليفة , وكانت موافقة الخليفة على الصلح مع عماد الدين زنكي أكبر دليل على حكمته وحنكته السياسية حيث أتاح له هذا الصلح التفرغ الكامل للسلاجقة فضلا عن كونه استطاع أن يحول عداء زنكي إلى صداقة وولاء.
.
القتال بين الخليفة والسلطان مسعود:
لم تنته متاعب الخليفة المسترشد بالله مع السلاجقة، فقد نقض السلطان مسعود اتفاقه مع الخليفة، فما كان من الخليفة إلا أن عزله من منصبه , فغادر مسعود بغداد، وضعفت سلطتة عام 528هـ بعد أن انضم معظم عسكره إلى أخيه طغرل.
.
على أن الخليفة المسترشد بالله ما لبث أن دعا مسعودًا إلى القدوم إلى بغداد ليعيده إلى منصبه، فلبى مسعود دعوته، وكان هدف الخليفة هو الاستفادة قدر الإمكان من نزاع السلاجقة لإضعافهم، ولهذا أخذ يحرض السلطان مسعود على السير لحرب أخيه طغرل. ولكن السلطان مسعودًا لم يستجيب لطلبه .
.
وتجدد الخلاف بعد ذلك بين الخليفة المسترشد بالله وبين السلطان مسعود، فقد اكتشف وزير الخليفة خطاباً أرسله طغرل إلى بعض الأمراء الموالين له في بغداد، فقبض الخليفة على أحدهم، بينما لجأ الباقون إلى السلطان مسعود ورفض أن يسلمهم للخليفة، فغضب الخليفة منه، وأمره بالرحيل عن بغداد فخرج منها في شهر ذي الحجة من عام 528هـ .
.
غير أن الخليفة علم بمسير طغرل على رأس جيشه إلى العراق، فاضطر إلى مصالحة السلطان مسعود ليقفا معًا في وجه عدوهما المشترك ، ثم جاءت الأخبار بوفاة طغرل وهو في طريقه إلى بغداد، فسار السلطان مسعود إلى همذان، وتولى الحكم في أول عام 529هـ ، ولما استقرت السلطنة لمسعود في همذان، أخذ الأمراء الذين لجأوا إليه خوفاً من الخليفة يحرضونه على المسير لحرب الخليفة لإخضاعه للنفوذ السلجوقي، فانصاع السلطان مسعود إليهم، وأخذ يجهز جيشه لمهاجمة بغداد مما حمل الخليفة على قطع الخطبة له، وأخذ يعد العدة لحربه.
.
وقوع الخليفة المسترشد بالله في الأسر ومقتله:
ثم خرج الخليفة المسترشد بالله من بغداد لقتال السلطان مسعود.
ويذكر ابن الأثير أن جيش الخليفة المسترشد بالله كان سبعة آلاف جندي، بينما لم يتجاوز جيش عدوه ألفا وخمسمائة جندي، إلا أن السلطان مسعود لجأ إلى السياسة وأخذ يستميل أمراء الأطراف الذين كانوا على اتصال بالخليفة.
.
ولكن تريث الخليفة في الطريق ساعد السلطان مسعودًا على استمالة أولئك الأمراء، وضمهم إلى جيشه، وكان الخليفة يعتقد أنه إذا خرج للقتال فسيكون الناس إلى جانبه ضد السلاجقة ، لكن الأمور لم تسر وفق ما خطط لها المسترشد بالله، بل حدث العكس فلما التقت قواته بجيش السلطان مسعود، غدر به الأمراء الأتراك وأتباعهم فانسحبوا من جيشه، وانضموا إلى جيش السلاجقة، فانهزم جيش الخلافة، ووقع الخليفة نفسه في الأسر ، مع خواصه، فحبسهم السلطان مسعود بقلعة بقرب همذان.
.
فبلغ أهل بغداد ذلك فحثوا على رءوسهم التراب في الأسواق، وبكوا وضجّوا، وخرجت النساء حاسرات يندبن الخليفة ومنعوا الصلاة والخطبة وكسروا منابر الجوامع. قال ابن الجوزي: وزلزلت بغداد مراراً كثيرة والناس يستغيثون فأرسل السلطان سنجر إلى ابن أخيه مسعود يقول: ساعة وقوف الولد على هذا الكتاب يدخل على أمير المؤمنين ويقبل الأرض بين يديه ويسأل العفو والصفح، فقد ظهر عندنا من الآيات السماوية والأرضية ما لا طاقة لنا بسماع مثلها فضلاً عن المشاهدة من العواصف والبروق والزلازل وتشويش العساكر وانقلاب البلدان , ولقد خفت على نفسي من جانب الله تعالى وظهور آياته وامتناع الناس من الصلوات في الجوامع ومنع الخطباء مما لا طاقة لي بحمله، فالله الله بتلافي أمرك وتعيد أمير المؤمنين إلى مقر عزه وتحمل الغاشية بين يديه ، كما جرت به عادة السلاطين من قبلنا، ففعل السلطان مسعود جميع ما أمر به، وهم فيما هم فيه، إذ هجم سبعة عشر رجلاً من الباطنية على الخليفة وهو في خيمته، فقتلوه وقتلوا معه جماعة من أصحابه ، فما شعر بهم العسكر إلا وقد فرغوا من هذه المقتلة فقبضوا عليهم وقتلوهم، فلما وصل الخبر إلى بغداد واشتد ذلك على الناس وخرجوا حفاة مخرقي الثياب والنساء ناشرات الشعور، يلطمن على خدودهن، ويقلن الرثاء، لأن المسترشد كان محبباً فيهم ، وكانت دولته سبع عشرة سنة وسبعة أشهر وعاش ستاً وأربعين سنة.
.
المراجع:
محمد بن علي بن العمراني في كتاب (الانباء في تاريخ الخلفاء)
ابو عبد الله شمس الدين الذهبي في كتاب (سير اعلام النبلاء)
جلال الدين السيوطي في كتاب (تاريخ الخلفاء)
ابن الأثير في كتاب ( الكامل في التاريخ)
بن الجوزي أبو الفرج في كتابه (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم)
إبن كثير في كتاب (البداية والنهاية)