ستقرأون في هذا الفصل الـ 36 من الباب الثاني "الخلافة العباسية" .. سيرة الخليفة المستنصر بالله رقم 36 في تسلسل الخلفاء العباسيين وعددهم 37 وهو الخليفة قبل
الأخير وقبل زوال الخلافة العباسية بعد إجتياح التتار أو المغول بغداد في زمن إبنه الخليفة المستعصم بالله والذي قتل هو وإسرته بأمر من هولاكو زعيم التتار في يوم الاربعاء 14 صفر 656ه الموافق 20/2/1258م, وكان من أهم إنجازات المستنصر بالله بناء المدرسة الكبيرة المستنصرية التي لم تبن مدرسة في الدنيا مثلها, كما سيأتي ذكره بشيء من التفصيل لاحقا .. تابعونا
.
دراسة تحليلية من كتاب "مآسي الخلافة كنظام للحكم" لمؤلفه الكاتب المفكر عبد المنعم الخن - (الباب الثاني - الخلافة العباسية الفصل السادس والثلاثون / خلافة المستنصر بالله)
.
من هو الخليفة المستنصر بالله؟...
هو ابو جعفر منصور بن محمد الظاهر بن احمد الناصر, وهو الخليفة العباسي السادس والثلاثون, ولد في بغداد 14 صفر 588ه الموافق 1/3/1192م, وأمه جارية تركية. كان جده الناصر يسميه القاضي لوفرة عقله وتوفي في 10 جمادى الآخرة 640 ه الموافق 5/12/1242م, ودامت خلافته من عام 623ه الموافق 1226م الى ان توفي في عام 640ه الموافق 1242م.
سماته وصفاته
كان من أحسن الناس شكلا وأبهاهم منظرا ، وكأن الثريا علقت في جبينه وفي خده الشعرى وفي وجهه القمر وفي نسبه الشريف خمسة عشر خليفة ، منهم خمسة من آبائه ، وتلقى هو الخلافة عنهم وراثة كابرا عن كابر ، وهذا شيء لم يتفق لأحد من الخلفاء قبله ، وسار في الناس كسيرة أبيه الظاهر في الجود وحسن السيرة والإحسان إلى الرعية .
قال ابو عبد الله شمس الدين الذهبي في كتاب (سير اعلام النبلاء): "كان أبيض أشقر، سمينا، ربعة، مليح الصورة.
قال ابن كثير في كتاب (البداية والنهاية): إن المستنصر بالله كان يواظب على حضور الجمعة راكباً ظاهراً للناس، وإنما معه خادمان وراكب دار، وخرج مرة وهو راكب فسمع ضجة عظيمة فقال: ما هذا؟ فقيل له التأذين، فترجل عن مركوبه وسعى ماشياً، ثم صار يدمن المشي إلى الجمعة رغبة في التواضع والخشوع، ويجلس قريباً من الإمام ويستمع الخطبة.
توليه الخلافة:
بويع بالخلافة يوم مات أبوه وكان يوم جمعة الذي وافق 13 رجب 623ه الموافق 10/7/1226م. ، بايعه الخاصة من أهل الحل والعقد وكذلك العامة , وكان يوما مشهودا ، وكان عمره يومئذ خمسا وثلاثين سنة وخمسة أشهر وأحد عشر يوما
واستمر ولاة المدن الذين كانوا في عهد أبيه على ما كانوا عليه، ولما كان يوم الجمعة التالية لتوليه الخلافة خطب له على المنابر ونثر الذهب والفضة عند ذكر اسمه، وأنشد الشعراء المدائح والمراثي، وأطلقت لهم الخلع والجوائز، وفي يوم غرة شعبان قدم رسول من قبل الوزير ضياء الدين أبي الفتح نصر الله بن الأثير والي الموصل ، فيها التهنئة والتعزية بعبارة فصيحة بليغة.
.
أهم إنجازاته:
بنى المدرسة الكبيرة المستنصرية التي لم تبن مدرسة في الدنيا مثلها , أسست في بغداد عام 630هـ / 1233م ، وكانت مركزا علميا وثقافيا هاما. تقع في جهة الرصافة من بغداد, وشيدت على مساحة 4836 متراً مربعاً تطل على شاطئ نهر دجلة بجانب "قصر الخلافة" بالقرب من المدرسة النظامية، وكانت تتوسط المدرسة نافورة كبيرة فيها ساعة المدرسة المستنصرية العجيبة، وهي ساعة عجيبة غريبة تعد شاهداً على تقدم العلم عند العرب في تلك الحقبة من الزمن تعلن أوقات الصلاة على مدار اليوم.
وتتألف المدرسة من طابقين شيدت فيهما مائة غرفة بين كبيرة وصغيرة إضافة إلى الاواوين والقاعات, وكانت المكتبة زاخرة باعداد ضخمة من المجلدات النفيسة والكتب النادرة. وبلغ تعدادها 450 الفا وتعد مرجعاً للطلاب. كما قصد المكتبة الكثيرون من العلماء والفقهاء وترددوا عليها وافادوا من كنوزها العلمية والأدبية نحو قرنين من الزمن. وقد نقل الخليفة المستنصر نفائس الكتب من مختلف العلوم والمعارف ما يقدر بـ80 الف مجلد بحسب الصنوف.
.
ومن أهم إنجازاته أيضا نشر العدل وبذل الإنصاف في القضايا. وكرّم أهل العلم والدين وقربهم، وقام بإنشاء المساجد والمدراس والمستشفيات وعمل على تجميع الجيوش للدفاع عن دولة الإسلام. وحشد العساكر والجيوش العظيمه والتي لم يكن لبني العباس مثلها وكان قائد جيشه أخوه القائد الشجاع الخفاجي بن الظاهر انتصر على جنود التتار في معركة خاضها ضدهم وأخذ الأراضي منهم واستأصلهم وقتل منهم خلقا كثيرا، ودامت أيام المستنصر في أحسن حال ودام عز الخلافة في عهده.
.
قال الإمام الذهبي: أن في أيام المستنصر أخذ الوجيه القيرواني يمدح المستنصر بقصيدة قال فيها لو كنت في يوم السقيفة حاضرا كنت المقدم والامام الأورع فقاطعه شخص قائلا اخطأت قد كان العباس حاضرا جد أمير المؤمنين ولم يكن المقدم إلا أبو بكر، فأقر له المستنصر بالله ذلك وخلع عليه خلعة وأمر بنفي ابن الوجيه إلى مصر.
.
حدث في عهده:
في سنة 625هـ كانت حروب كثيرة بين جلال الدين والتتر، هزموه مرات، ثم بعد ذلك هزمهم هزيمة عظيمة، وقتل منهم خلقاً وأمماً لا يحصون , وكان هؤلاء التتر قد انفردوا وعصوا وإنقلبوا على جنكيز خان فكتب جنكيز خان إلى جلال الدين يقول له: إن هؤلاء ليسوا منا ونحن أبعدناهم، ولكن سترى منا ما لا قبل لك به.
وفي نفس السنة 625هـ قدمت طائفة كبيرة من الفرنج من ناحية صقلية فنزلوا عكا وصور وحملوا على مدينة صيدا فانتزعوها من أيدي المسلمين، وعبروها وقويت شوكتهم، وجاء الأنبرو ملك الجزيرة القبرصية ثم سار فنزل عكا فخاف المسلمون من شره.
في سنة 626هـ بدأت هذه السنة وملوك بني أيوب مفترقون مختلفون، قد صاروا أحزاباً وفرقاً، وقد اجتمع ملوكهم إلى الكامل محمد صاحب مصر، وهو مقيم بنواحي القدس الشريف، وقد قويت شوكة الفرنج بكثرتهم بمن وفد إليهم من البحر، وبموت صلاح الدين الأيوبي واختلاف من بعده من الملوك، فطلبوا من المسلمين أن يردوا إليهم ما كان الناصر صلاح الدين أخذه منهم، فوقعت المصالحة بينهم وبين الملوك أن يردوا لهم بيت المقدس وحده، وتبقى بأيديهم بقية البلاد فتسلموا القدس الشريف.
.
ثم قَدم الملك الكامل فحاصر دمشق وضيق على أهلها فقطع الأنهار ونهُبت الحواصل وغلت الأسعار، ولم يزل الجنود حولها حتى أخرج منها ابن أخيه صلاح الدين الملك الناصر داود، على أن يقيم ملكاً بمدينة الكرك والشوبك ونابلس وبرا ما بين الغور والبلقاء، ويكون الأمير عز الدين أيبك أستاذ دار المعظم (أي رئيس الرؤساء وكبير آل صلاح الدين الأيوبي) وصاحب صرخد (أي ملكا علي صرخد وهي قلعة ضخمة في محافظة السويداء في سوريا وكان أسمها في الأصل "صلخد" ولكن أشتهرت بـ "صرخد), ثم تقايض الأشرف وأخاه الكامل فأخذ الأشرف دمشق وأعطى أخاه حران والرها والرقة ورأس العين وسروج.
.
ثم سار الكامل فحاصر حماة، وكان صاحبها الملك المنصور بن تقي الدين عمر قد توفي وعهد بالأمر من بعده إلى أكبر ولده المظفر محمد، وهو زوج بنت الكامل، فاستحوذ على حماة أخوه صلاح الدين قلج أرسلان فحاصره الكامل حتى أنزله من قلعتها وسلمها إلى أخيه المظفر محمد، ثم سار فتسلم البلاد التي قايض بها عن دمشق من أخيه الملك الأشرف كما ذكرنا.
.
قال إبن كثير في كتاب البداية والنهاية: في سنة 627هـ كانت وقعة عظيمة بين الأشرف موسى بن العادل وبين جلال الدين بن خوارزم شاه، وكان سببها أن جلال الدين الخوارزمي استحوذ على بلاد خلاط، وقتل من أهلها خلقاً كثيراً ونهب أموالاً كثيرة، فالتقى معه الأشرف واقتتلوا قتالاً عظيماً فهزمه الأشرف هزيمة منكرة، وهلك من الخوارزمية خلق كثير، ودقت البشائر في البلاد فرحاً بنصرة الأشرف على الخوارزمية، فإنهم كانوا لا يفتحون بلداً إلا قتلوا من فيه ونهبوا أموالهم، فكسرهم الله تعالى.
.
قال ابي الفداء في كتاب (المختصر في اخبار البشر): في سنة 633هـ : سار الناصر داود من الكرك إلى بغداد، ملتجئاً إلى الخليفة المستنصر، لما حصل عنده من الخوف من عمه الملك الكامل (ملك مصر)، وقدم إلى الخليفة تحفاً عظيمة، وجواهر نفيسة، فأكرمه الخليفة المستنصر وخلع عليه، وعلى أصحابه.
وفي نفس سنة 633هـ ركب الملك الكامل محمد بن العادل صاحب مصر إلى بيت المقدس الشريف فدخله، ثم سار إلى نابلس فخاف الناصر داود بن المعظم من عمه الكامل، فكتب إلى عمه الآخر بالشام "الأشرف" كي يصلح بينه وبين عمه الكامل فكتب إلى أخيه الكامل يستعطفه ويكفه عن ابن أخيه، فأجابه الكامل وكتب له: بأني إنما جئت لحفظ بيت المقدس وصونه عن الفرنج الذين يريدون أخذه، وحاشى لله أن أحاصر أخي أو ابن أخي، وبعد أن جئت أنت إلى الشام فأنت تحفظها وأنا راجع إلى الديار المصرية , وهنا خشي الأشرف وأهل دمشق إن رجع الكامل أن تمتد أطماع الفرنج إلى بيت المقدس، فركب الأشرف إلى أخيه الكامل فثبطه عن الرجوع، وأقاما جميعاً هنالك يحوطان ويحرسان القدس من أطماع الفرنج.
.
في سنة 637هـ قال أيضا أبو الفداء في كتاب (المختصر في اخبار البشر): قصد الناصر داود القدس، وكان الفرنج قد عمروا قلعتها بعد موت الملك الكامل، فحاصرها وفتحها وخرب القلعة.
.
وفاته:
توفي في 10 جمادى الآخرة 640 ه الموافق 5/12/1242م, ودامت خلافته 17 عاما من عام 623هـ الموافق 1226م الى ان توفي في عام 640هـ الموافق 1242م, وصلي عليه إبنه ابو احمد عبد الله الملقب بالمستعصم بالله وتولي الخلافة بعده.
.
المراجع:
ابو عبد الله شمس الدين الذهبي في كتاب (سير اعلام النبلاء)
ابن كثير في كتاب (البداية والنهاية)
ابو عبد الله شمس الدين الذهبي في كتاب (سير اعلام النبلاء)
أبو الفداء في كتاب (المختصر في اخبار البشر)