دراسة تحليلية من كتاب "مآسي الخلافة كنظام للحكم" لمؤلفه الكاتب المفكر عبد المنعم الخن - (الباب الأول - الخلافة الأموية - الفصل الخامس) ..
.
لقد بينت في الفصول الأربعة من الباب الأول "الخلافة الأموية" وكيف بدأ الصراع علي كرسي الخلافة عندما تحولت الأخيرة كنظام للحكم من الشوري إلي نظام حكم وراثي من الأب لإبنائه من بعده , ولقد قال الحسن البصري في ذلك: «أفسد أمر الناس اثنان: عمرو بن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف فحُملت، ونال من القراء، فحكم الخوارج، فلا يزال هذا التحكيم إلى يوم القيامة.
والمغيرة بن شعبة، فإنه كان عامل معاوية على الكوفة فكتب إليه معاوية: إذا قرأت كتابي، فأقبل معزولا، فأبطأ عنه، فلما ورد عليه قال: ما أبطأ بك؟ قال: أمرٌ كنت أوطّؤه وأهيؤه. قال: وما هو؟ قال: البيعة ليزيد من بعدك! قال: أوَ قد فعلت؟ قال: نعم. قال: ارجع إلى عملك. فلما خرج قال له أصحابه: ما وراءك؟ قال: وضعتُ رجلَ معاوية في غرز غيٍّ لا يزال فيه إلى يوم القيامة. قال الحسن: فمن أجل ذلك بايع هؤلاء لأبنائهم، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة».
.
لما حضر عبد الملك الموتُ دخل عليه ابنه الوليد وهو يبكي فقال عبد الملك: ما هذا أتحنُّ حنين الأَمة؟ إذا أنا متّ فشمِّر، وائتزر، والبس جلد النمر، وضع سيفك على عاتقك، فمن أبدى ذات نفسه لك فاضرب عنقه، ومن سكت مات بدائه.
.
وفاة عبد الملك بن مروان:
توفي عبد الملك في النصف من شوال عام 86هـ، وصلى عليه ابنه الوليد، ثم بُويِع له بالخلافة في اليوم نفسه، وكان ولي العهد بعد عبد الملك هو أخاه عبد العزيز بن مروان؛ لأن أباهما أخذ لهما البيعة معًا من أهل الشام في بداية سنة 65هـ، وكان عبد الملك قد أراد أخاه على التنازل عن الخلافة لابنه الوليد فأبى عبد العزيز ذلك، وكاد يحدث بينهما من جَرَّاء ذلك شقاق إلا أن المشكلة حُلَّتْ بموت عبد العزيز بن مروان قبل أخيه عبد الملك، فبايع عبد الملك لولديه الوليد ثم سليمان , وكانت مدة خلافة عبد الملك بن مروان إحدى وعشرين سنة.
خلافة الوليد بن عبد الملك:
لما مات عبد الملك بن مروان في 86 هـ، وتولى ابنه الوليد بعده، فأقر الحجاج على كل ما أقره عليه أبوه، وقربه منه أكثر، فاعتمد عليه , وكان ذلك على كره من أخيه وولي عهده سليمان بن عبد الملك، وابن عمه عمر بن عبد العزيز. وفي ولاية الوليد هدد سليمان بن عبد الملك الحجاج إذا ما تولى الحكم بعد أخيه، فرد عليه الحجاج مستخفاً مما زاد في كره سليمان له ولمظالمه.
ورغم ما فعله الحجاج في حق المسلمين لم يشأ الوليد أن يعزله ولم يصغ لنصيحة أخيه سليمان بن عبد الملك وإبن عمه عمر بن عبد العزيز بعزله , وفي غضون ذلك مات الحجاج وحين جاء إليه الناس من كل الأمصار يعزونه في موته، قال: كان أبي يقول أن الحجاج جلدة ما بين عينيه، أما أنا فأقول أنه جلدة وجهي كله , وهذا ما يشير إلي تمسك الوليد به والإصرار عليه وتقريبه منه, وكذلك كان منحي الحجاج تجاه الوليد وإخلاصه وطاعته له , وهذا ما تؤكده هذه الوصية التي كتبها الحجاج قبل موته يقول فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحجاج بن يوسف: أوصى بأنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأنه لا يعرف إلا طاعة الوليد بن عبد الملك، عليها يحيا وعليها يموت.
.
ويروى أنه قيل له قبل وفاته: ألا تتوب؟ فقال: إن كنت مسيئاً فليست هذه ساعة التوبة، وإن كنت محسناً فليست ساعة الفزع. وقد ورد أيضاً أنه دعا فقال: اللهم اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل , وتم دفنه في قبر غير معروف المكان في واسط،.
.
كانت تولية الحجاج سيئة من سيئات عبد الملك بن مروان , ولو لم يكن له مساوئ غيرها لكفته هذه , فقد أطلق يد هذا السفاح على المسلمين وعلى الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يهينهم ويذلهم قتلا وضرباً وشتماً وحبساً، وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين ما لا يُحصى، فضلا عن غيرهم.
.
يقول الحافظ الذهي في كتابه سير أعلام النبلاء: الوليد بن عبد الملك لقب بالخليفة أبو العباس الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي ، بويع بعهد من أبيه ، وكان مترفا ، دميما ، سائل الأنف ، طويلا أسمر ، بوجهه أثر جدري ، في عنفقته شيب ، يتبختر في مشيه ، وكان قليل العلم ، نهمته في البناء , أنشأ - المسجد الأموي وأيضا - مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزخرفه ، ورزق في دولته سعادة , ففتح بوابة الأندلس ، وبلاد الترك
.
عزله لعمر بن عبد العزيز عن الحجاز:
كان عمر بن عبد العزيز واليا علي مكة والمدينة من قبل عمه الخليفة عبد الملك بن مروان , وكان يلجأ إلي الحجاز كل من خاف من بطش الحجاج , أما الأمر المسبب لعزل عمر بن عبد العزيز عن الحجاز أنه كتب إلى الوليد يخبره بعسف الحجاج لأهل العراق واعتدائه عليهم وظلمه لهم بغير حق فبلغ ذلك الحجاج فكتب إلى الوليد: إن من عندي من المراق وأهل الشقاق قد جلوا عن العراق ولحقوا بالمدينة ومكة وإن ذلك وهن , فكتب إليه الوليد يستشيره فيمن يوليه المدينة ومكة فأشار عليه بخالد بن بد الله وعثمان بن حيان فولى خالدًا مكة وعثمان المدينة وعزل عمر عنهما.
وقد كان ميل الوليد لسياسة الحجّاج واضحاً، وكان يظن بأن سياسة الشدة والعسف هي السبيل الوحيد لتوطيد أركان الدولة، وهذا ما حال بينه وبين الأخذ بآراء عمر بن عبد العزيز ونصائحه، وقد أثبتت الأحداث فيما بعد أن ما كان يراه عمر أفضل مما كان يسير عليه الوليد، وذلك بعد تولي عمر الخلافة وتطبيقه لما كان يشير به.
.
خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة المنورة، وهو يبكي ومعه خادمه مزاحم، فالتفت إلى مزاحم وقال: يا مزاحم، نخشى أن نكون من نفت المدينة ، يشير بذلك إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا وإن المدينة كالكير يخرج الخبث، لا تقوم الساعة حتى تفني المدينة شرارها، كما ينفي الكير خبث الحديد.
.
ولما كان هذا الكتاب يحكي مآسي الخلافة كنظام للحكم وكيف كان الخلفاء يتنازعون فيما بينهم علي كرسي الخلافة لأنفسهم ولإبنائهم من بعدهم كان لابد من الإشارة لعسف الخليفة الوليد بن عبد الملك عندما أراد خلع أخيه سليمان بن عبد الملك وأخذ البيعة لإبنه عبد العزيز بن الوليد من بعده إلا أن عمر بن عبد العزيز وهو إبن عمه قد نصحه ألا يفعل ذلك ووقف موقفا حازماً؛ إذ لم يستجب لأمر الوليد في ذلك، وقال حين أراده على ذلك: يا أمير المؤمنين، إنما بايعنا لكما في عقدة واحدة، فكيف نخلعه ونتركك: فغضب الوليد على عمر، وحاول استخدام الشدة معه لعله يوافقه على ما أراد، فيذكر أنه أغلق عليه الدار وطيّن عليه الباب أي غلقه بالطين , وقيل خنقه بمنديل حتى صاحت أخته أم البنين ففتح عنه بعد ثلاث أيام ، وقد ذبل ومالت عنقه . فشكر سليمان لعمر ذلك ، وعهد إليه بالخلافة
فيما بعد.
.
وتذكر بعض المراجع أنه لما علم مسلمة بن عبد الملك وكانت أمه من "ملك يمين" عبد الملك بن مروان أي جارية , وكان قائدا عظيما ومحاربا لا يشق له غبار وخاض كثيرا من المعارك من أجل نشر الإسلام وتوسيع رقعة الدولة الأموية إلا أنه لم يول أي لم تأخذ البيعة له في ترتيب أبنائه الآخر بسبب أمه الجارية, لما علم بذلك مسلمة ذهب إلي بيت إبن عمه عمر وأزال الطين من حوله بالمعول وأخرج عمرا وقد ذبل ومالت عنقه.
.
موت الوليد بن عبد الملك
مات في جمادى الآخرة سنة ست وتسعين . وله إحدى وخمسون سنة وكانت مده خلافته عشر سنين سوى أربعة أشهر ، وقبره بباب الصغير , وتولي بعده
أخوه سليمان بعهد له من أبيهما عبد الملك بن مروان.
.
وإلي اللقاء في الفصل السادس من الباب الأول وسنذكر فيه خلافة سليمان بن عبد الملك ووصيته المكتوبة يعهد فيها إلي إبن عمه عمر بن عبد العزيز بالخلافة من بعده متخطيا يزيد بن عبد الملك الذي كان ثالثا في الترتيب بعد الوليد وسليمان .. تابعونا
.
المراجع:
تاريخ الخلفاء ، السيوطي : 176
عبد الملك بن مروان، سير أعلام النبلاء، الحافظ الذهبي
الوليد بن عبد الملك , سير أعلام النبلاء, الحافظ الذهبي
سيرة عمر بن عبد العزيز للجوزي صـ140.
سيرة عمر بن عبد العزيز ومناقبه، صـ24 لابن الحكم.
تاريخ الطبري (7/383).
أثر العلماء في الحياة السياسية صـ165.
سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ119