دراسة تحليلية من كتاب "مآسي الخلافة كنظام للحكم" تحت الطبع لمؤلفه الكاتب المفكر عبد المنعم الخن - (الباب الأول - الخلافة الأموية - الفصل السابع) ..
.
وقفنا في الفصل السادس عند دور الوزير رجاء بن حيوة وكان دورا بارزا في تثبيت عمر بن عبد العزيز علي كرسي الخلافة كأحد أعظم خلفاء بني أمية وواجه بن حيوة أبناء عبد الملك بن مروان "يزيد" و "هشام" بكل حسم وحزم حتي عقدت البيعة لعمر , وهذا ما سوف أتناوله في هذا الفصل "السابع".
.
دور إبن جيزون في تولية عمر الخلافة
لو لم يكن لرجاء بن حيوة موقف غير موقفه الذي أشار به على سليمان بن عبد الملك بولاية عمر بن عبد العزيز لكفاه، فقد كان صادقًا في نصيحته له، يروى عن رجاء بن حيوة أنه قال: لما ثقل سليمان بن عبد الملك رآني عمر في الدار أخرج وأدخل وأتردد فدعاني فقال لي: يا رجاء، أذكرك الله والإسلام أن تذكرني لأمير المؤمنين أو تشير بي عليه إن استشارك فوالله ما أقوى على هذا الأمر فأنشدك الله إلا صرفت أمير المؤمنين عني فانتهرته وقلت: إنك لحريص على الخلافة لتطمع أن أشير عليه بك فاستحيا ودخلت فقال لي سليمان: يا رجاء من ترى لهذا الأمر وإلى من ترى أن أعهد؟ قلت: يا أمير المؤمنين، اتق الله فإنك قادم على الله، وسائلك عن هذا الأمر وما صنعت فيه قال: فمن ترى؟ فقلت: عمر بن عبد العزيز قال: كيف أصنع بعهد أمير المؤمنين عبد الملك إلى الوليد وإلي في ابني عاتكة أيهما بقي؟ قلت: تجعلهما من بعده قال: أصبت ووفقت جئني بصحيفة فأتيته بصحيفة فكتب عهد عمر ويزيد من بعده وختمها، ثم دعوت رجالاً فدخلوا عليه فقال لهم: إني قد عهدت عهدي في هذه الصحيفة ودفعتها إلى رجاء وأمرته أمري وهو في الصحيفة اشهدوا واختموا الصحيفة؛ فختموا عليها وخرجوا فلم يلبث سليمان أن مات؛ فكففت النساء عن الصياح وخرجت إلى الناس فقالوا: يا رجاء، كيف أمير المؤمنين؟ قلت: تعلمون منذ اشتكى أسكن منه الساعة قالوا: لله الحمد فقلت: ألستم تعلمون أن هذا عهد أمير المؤمنين وتشهدون عليه؟ قالوا: بلى قلت: أفترضون به؟ قال هشام: إن كان فيه رجل من ولد عبد الملك وإلا فلا، قلت: فإن فيه رجل من ولد عبد الملك قال: فنعم إذا، قال: فدخلت فمكثت ساعة ثم قلت: للنساء اصرخن، وخرجت فقرأت الكتاب والناس مجتمعون في المسجد الأموي.
.
لما تلي رجاء إبن حيوة كتاب سليمان بن عبد الملك وعلم كل من يزيد وهشام ولدا عبد الملك نهضا من قعدتهم وثارا وهاجا وماجا , فتصد لهم رجاء بن حيوة وهددهما بقطع رأسيهما بالسيف إن لم يمتثلا لوصية الخليفة الراحل سليمان , عنئذ خافا وهدأت ثورتهم وأنعقدت البيعة لعمر بن عبد العزيز خليفة للمسلمين الذي كان عهده عهد عدل وخير كما سيأتي.
.
خلافة عمر بن عبد العزيز (99 -101 هـ/ 717- 719م )
الحق أن عمر لم يكن راغبًا في الخلافة، فيُروى أن عمر بن عبد العزيز بعد أن فرغ من دفن سليمان بن عبد الملك صعد المنبر، واجتمع الناس فقال: "أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طِلْبةَ له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم. فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك، فتولَّ أمرنا باليُمنِ والبركة. فلما رأى الأصوات قد هدأت، ورضي به الناس جميعًا، حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي وقال:" أوصيكم بتقوى الله؛ فإن تقوى الله خلف كل شيء، وليس من تقوى الله خلف، واعملوا لآخرتكم فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر دنياه... ثم رفع صوته حتى أسمع الناس فقال: يا أيها الناس، من أطاع الله وجبت طاعتُه، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم".
.
بدأ عمر بن عبد العزيز عهده بسحب "الحملة الثالثة" من على أبواب القسطنطينية بعد أن استمرت اثنى عشر شهرًًا لم يتحقق فيها أي نصر مما أصاب الجند بالإرهاق والملل , بالإضافة إلي إستنزاف مزيد من أموال المسلمين , من أجل ذلك أمر بإعادة الحملة الأموية الثالثة والأخيرة فى نهاية سنة 99هـ/ 718م.
.
تفرغ عمر بعد ذلك لإقامة الحق والعدل وإشاعة الخير والسلام فى ربوع البلاد الإسلامية، راح يرفع المظالم عن الناس، ويعمل على إنصاف كل من ظلم فى عهود سابقيه من بنى أمية، وتعويض كل من حرم، ويعيد عهد جده "عمر بن الخطاب" الخليفة العادل الذى ملأ الدنيا عدلا، وراح يتشبه به فى زهده، وتقشفه، وإيمانه بالله، وتمسكه بكتابه، وسنة رسوله , لقد راح يحض الناس على مكارم الأخلاق، ويفرض العقاب الصارم على أى عدوان مهما صغر وحقر؛ ليقطع دابر الفساد، ويعيد الأمن والأمان إلى ربوع البلاد.
وامتد عدله إلى الأطراف البعيدة، وشمل أهل البلاد المفتوحة من غير المسلمين، الذين لهم عقد ذمة، وعهد مصالحة ؛ فلهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم , فرفع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة، وخفف الضرائب عن عامة المسلمين، وأصدر أمره بأن يوقف تحصيل خراج الأرض من المصريين لمدة عام تعويضًا لهم عما زيد عليهم فى أعوام سبقت.
.
ورأى أن المؤلفة قلوبهم قد استغنى الإسلام عنهم، وراح يرفع الأعباء عن أهل العراق وخراسان والسند التى كان الحجاج وأتباعه قد فرضوها على بعض من اعتنقوا الإسلام.
.
وراح يشجع أهل البلاد المفتوحة على قبول الإسلام والانضواء تحت لوائه، وتحبيبه إليهم بكل الوسائل، لقد هدأت أعصاب الناس، وراحوا جميعًا يفكرون فى الخير حتى الخوارج فى العراق والمشرق وإفريقية أقلعوا عن حركاتهم الثورية، وأرسلوا لـ "عمر" من يناظره فأفسحوا المجال للحجة والدليل بدل السيف والحرب.
.
لقد كانت فترة خلافته هى فترة التقاط الأنفاس، ولم الشمل، وجمع الكلمة، والدفع بالتى هى أحسن، إنه لم يكن يود توسيع رقعة الدولة أكثر مما وصلت إليه، وحسبه أن يعمل على تدعيمها وتوطيدها، وقد فعل وتحقق له ما أراد.
.
موت الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز مسموما
ذكر إبن كثير في كتابة "البداية والنهاية" أن السبب الظاهر لوفاة الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان السل . أما السبب الباطن فقيل سببها أن مولى له سمه في طعام أو شراب ، وأعطي على ذلك ألف دينار . فحصل له بسبب ذلك مرض ، فأخبر أنه مسموم ، فقال : لقد علمت يوم سقيت السم . ثم استدعى مولاه الذي سقاه ، فقال له : [ ص: 715 ] ويحك ، ما حملك على ما صنعت ؟ فقال : ألف دينار أعطيتها . فقال : هاتها . فأحضرها فوضعها في بيت المال ، ثم قال له : اذهب حيث لا يراك أحد فتهلك .
.
ثم قيل لعمر : تدارك نفسك . فقال : والله لو أن شفائي أن أمسح شحمة أذني ، أو أوتى بطيب فأشمه ما فعلت . فقيل له : هؤلاء بنوك وكانوا اثني عشر ألا توصي لهم بشيء ; فإنهم فقراء ؟ فقال إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين [ الأعراف : 196 ] والله لا أعطيهم حق أحد ، وهم بين رجلين ; إما صالح فالله يتولى الصالحين ، وإما غير صالح فما كنت لأعينه على فسقه وفي رواية : فلا أبالي في أي واد هلك . وفي رواية : أفأدع له ما يستعين به على معصية الله ، فأكون شريكه فيما يعمل بعد الموت ؟ ما كنت لأفعل . ثم استدعى بأولاده فودعهم وعزاهم بهذا ، وأوصاهم بهذا الكلام ، ثم قال : انصرفوا عصمكم الله ، وأحسن الخلافة عليكم . قال : فلقد رأينا بعض أولاد عمر بن عبد العزيز يحمل على ثمانين فرسا في سبيل الله ، وكان بعض أولاد سليمان بن عبد الملك مع كثرة ما ترك لهم من الأموال يتعاطى ويسأل من أولاد عمر بن عبد العزيز لأن عمر وكل ولده إلى الله عز وجل ، وسليمان وغيره إنما يكلون أولادهم إلى ما يدعون لهم من الأموال الفانية ، فيضيعون وتذهب أموالهم في شهوات أولادهم .
.
[ ص: 716 ] وقال يعقوب بن سفيان : ثنا أبو النعمان ، ثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، قال : قيل لعمر بن عبد العزيز : يا أمير المؤمنين ، لو أتيت المدينة فإن قضى الله موتا دفنت في القبر الرابع مع رسول صلى اله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وعمر . فقال : والله لأن يعذبنا الله بكل عذاب ، إلا النار فإنه لا صبر لي عليها أحب إلي من أن يعلم الله من قلبي أني لذلك الموضع أهل .
.
قالوا : وكان مرضه بدير سمعان من قرى حمص وكانت مدة مرضه عشرين يوما .
.
ولما احتضر قال : أجلسوني . فأجلسوه ، فقال : إلهي ، أنا الذي أمرتني فقصرت ، ونهيتني فعصيت ثلاثا ولكن لا إله إلا الله . ثم رفع رأسه فأحد النظر ، فقالوا : إنك لتنظر نظرا شديدا يا أمير المؤمنين . فقال : إني لأرى حضرة ما هم بإنس ولا جان . ثم قبض من ساعته . وفي رواية أنه قال لأهله : اخرجوا عني . فخرجوا وجلس على الباب مسلمة بن عبد الملك وأخته فاطمة ، فسمعوه يقول : مرحبا بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنس ولا جان ، ثم قرأ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين [ القصص : 83 ] ثم هدأ الصوت ، فدخلوا عليه فوجدوه قد غمض ، وسوي إلى القبلة ، وقبض .
.
وتوفى -رحمه الله- فى رجب من سنة 101هـ/ 720م، وكانت هذه الفترة القصيرة من خلافته نقطة مضيئة فى دولة بنى أمية، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر.
.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عبد الملك بن عبد العزيز ، عن الدراوردي ، [ ص: 717 ] عن عبد العزيز بن أبي سلمة ، أن عمر بن عبد العزيز لما وضع عند قبره هبت ريح شديدة ، فسقطت صحيفة بأحسن كتاب فقرءوها فإذا فيها : بسم الله الرحمن الرحيم ، براءة من الله لعمر بن عبد العزيز من النار . فأدخلوها بين أكفانه ، ودفنوها معه . وروي نحو هذا من وجه آخر .
.
المراجع
سير أعلام النبلاء، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، الطبعة الثانية، 1402هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، ج5 ص144
عمر بن عبد العزيز: معالم التجديد والإصلاح الراشدي على منهاج النبوة، علي محمد محمد الصلابي، دار التوزيع والنشر الإسلامية، مصر، الطبعة الأولى، 1427هـ-2006م
كتاب الطبقات الكبير، محمد بن سعد البغدادي، دار صادر، بيروت، لبنان، ج5 ص331
.البداية والنهاية لإبن كثير - الجزء الثاني عشر