دراسة تحليلية من كتاب "مآسي الخلافة كنظام للحكم" تحت الطبع لمؤلفه الكاتب المفكر عبد المنعم الخن - (الباب الأول - الخلافة الأموية - الفصل التاسع) ..
.
خلافة هشام بن عبد الملك:
لا يطول الأجل بالخليفة "يزيد بن عبد الملك بن مروان" فيلقى ربه ويخلفه من بعده هشام بن عبد الملك ( 105 - 125هـ).
.
مولده ونسبه:
وُلِدَ هشام بن عبد الملك -على القول الراجح- سنة 72هـ، ولقبه أبوه عبد الملك بن مروان "المنصور" بالله تفاؤلا لأنه ولد في الوقت الذي قتل فيه مصعب بن الزبير في سنة 72هـ , لكنه وجد أمه قد أسمته باسم أبيها هشام فأقره ولم تلد من عبد الملك سواه حتى طلقها.
.
نسبه:
هو هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص
وأمه عائشة بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد
كنيته : أبو الوليد
وهشام هو جد "عبد الرحمن الداخل" الدي أقام خلافة أموية في الأندلس بعد زوال الخلافة الأموية علي يد العباسيين.
ترتيبه في الخلافة : العاشر من خلفاء بني أمية و يعد آخر الأقوياء من خلفاء بني أمية
.
حياته قبل الخلافة
قضى هشام الشطر الأخير من طفولته في منزل الخلافة الأموي بالشام في أواخر حكم أبيه وإخوته من الخلفاء وكان مغمورًا في البلاط الأموي زمن أخويه الوليد وسليمان، وقد بقي بعيدًا عن مسرح الأحداث نسبيًّا حتى توليه الخلافة سن 105هـ، إلا أنه كان قائد داهية...تشهد له ميادين الجهاد قبل توليه الخلافة , وهو الرابع من ولد عبد الملك لصلبه الذين ولوا الخلافة.
.
ويقال أن يزيد بن عبد الملك قبل موته كتب إلى أخيه هشام أما بعد فإن أمير المؤمنين قد بلغه أنك استبطأت حياته وتمنيت وفاته ورمت الخلافة وكتب في آخره
تمنى رجال أن أموت وإن أمت *** فتلك سبيل لست فيها بأوحد
وقد علموا لو ينفع العلم عنده*** متى مت ما الباغي علي بمخلد
منيته تجري لوقت وحتفه *** يصادفه يوما على غير موعد
فكتب إليه هشام : جعل الله يومي قبل يومك وولدي قبل ولدك فلا خير في العيش بعدك
.
توليه الخلافة:
بويع له بالخلافة بعد أخيه يزيد بن عبد الملك بعهد منه إليه، وذلك يوم الجمعة 26 من شعبان سنة خمس ومائة، وكان له من العمر يومئذ أربع وثلاثون سنة. ، وهو الرابع من ولد عبد الملك الذين ولوا الخلافة.
.
بعد توليه مقاليد الحكم واجه هشام بن عبد الملك عدداً من المحاولات لزعزعة الأمن وبعض الفتن من قبل الخوارج و أصحاب الأطماع السياسية إلا أنه تمكن من القضاء عليها جميعاً بفضل سياسته الحكيمة و بصيرته النافذة
.
كان هشام يُعَدُّ من ساسة بني أمية المشهورين، كان شديد المراقبة لعماله ودواوينه، وقد شهد له بجدارته أحد خصومه، فقال عبد الله بن علي بن العباس: جمعت دواوين بني مروان فلم أَرَ ديوانًا أصح ولا أصلح للعامة والسلطان من ديوان هشام.
.
علاقته بالرعية:
كان هشام يضع الرقباء والعيون من خيار الناس على ولاته وعماله ليتأكد من سيرهم بالعدل، وقضائهم حوائج الخلق، ولا يكتفي بذلك بل يتعرض للناس بنفسه يسأل عن أحوالهم، ويحرضهم على المطالبة بحقوقهم، وكان له موضع بالرصافة تُضرَب له به السرادقات، فيكون فيه ستين ليلة بارزًا للناس، يرد فيها المظالم , وقد كان هشام في خلافته حازم الرأي جمَّاعًا للأموال، ذكيًا مدبرًا، له بُعدٌ للأمور جليلها وحقيرها، وكان فيه حلم وأناة، قال فيه الذهبي: كان عاقلاً حازمًا سائسًا فيه ظلم وعدل.
.
وقد حدثت في خلافته أن قحطت البادية، فقدمت عليه وفود العرب، فهابوا أن يكلموه وكان فيهم درواس بن حبيب وهو ابن ست عشرة سنة، ثم قال هشام لحاجبه: من أراد أن يدخل عليَّ فليدخل فدخل حتى الصبيان، فوثب درواس حتى وقف بين يديه؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إن للكلام طيًّا ونشرًا، وإنه لا يعرف ما في طيه إلا بنشره، فإن أَذِنَ لي أمير المؤمنين أن أنشره نشرته. فأعجبه كلامه، وقال: انشره لله دَرُّك. فقال: يا أمير المؤمنين، إنه أصابتنا سنون ثلاث: سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة دقت العظم، وفي أيديكم فضول مال، فإن كان لله ففرقوها على عباده، وإن كانت لهم فلا تحسبوها عنهم، وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم، فإن الله يجزي المتصدقين، قال هشام: ما ترك لنا الغلام واحدة من الثلاث عذرًا، فأمر للبوادي بمائة ألف دينار، وله بمائة ألف درهم، ثم قال له: أما لك حاجة؟ قال: ما لي حاجة في نفسي دون عامة المسلمين.
.
اهتمامه بحلبات السباق
كان هشام بن عبد الملك يستجيد الخيل، وأقام الحلبة فاجتمع له من خيله فيها وخيل غيره أربعة آلاف فرس، ولم يكن ذلك في جاهلية ولا إسلام لأحد من الناس، وكان هشام يقبل الهدايا من الخيل، ويقيم حلبات السباق لها، ويصلح الطرق ويوسعها لأجل ذلك، وكان يفرح كثيرًا إذا فازت خيله في السباق، ويطلب من الشعراء وصف الفرس أو الحصان الفائز.
.
تقبله للهدايا
كان هشام يتقبل الهدايا من الولاة وغيرهم، ولم يَرَ بذلك إضرارًا بمصلحة الدولة أو إجحافًا بحقوق الناس. ولا شك أن قبوله للهدايا من الولاة خاصة، وعدم إمعانه في التحري عن مصادر تلك الهدايا أمر غير مقبول من حاكم مثله، وهذا مخالف للنهج الذي سار الرسول والخلفاء الراشدون وعمر بن عبد العزيز عليه.
.
فعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: "اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ رَجُلاً عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ الْلَّتَبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ قَالَ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : فَهَلاَّ جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا. ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلاَّنِي اللَّهُ فَيَأْتِي فَيَقُولُ هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أَفَلاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، وَاللَّهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلاَّ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطِهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ بَصْرَ عَيْنِي وَسَمْعَ أُذُنِي". صحيح البخاري.
.
اتهامه بشرب الخمر
جاءت روايات لا يصح إسنادها تشير إلى أن هشام بن عبد الملك كان يشرب الخمر كل يوم جمعة بعد الصلاة، وكانت له مجالس يدار فيها الخمر، فإن تلك الروايات لا تصح من حيث السند، كما أن سيرة هشام منافية لهذا الاتهام الباطل، فقد زجر ولي عهده لمعاقرته وإدمانه الخمر، كما زجر ابنه مسلمة المكَنى أبا شاكر، وألزمه الأدب وحضور الجماعة.
.
وإذا كان هناك من مأخذ على هشام بن عبد الملك فهو تغافله عن دعاة بني العباس الذين نشطوا في عهده في الدعوة لآل البيت، وانبثوا في خراسان، وجَدُّوا في تشويه سمعة الدولة الأموية، وفي الاستعداد لتقويضه. ولعل كراهية هشام للعنف وسفك الدماء كانت سببًا في تغاضيه عنهم حتى استفحل أمرهم، وقد ظهرت آثار ذلك قبيل وفاته واستفحلت بعده، بحيث لم يستطع خلفاؤه وقف مَدِّ الدعوة العباسية التي نجحت في نهاية الأمر في القضاء التام على أسرته؛ ولذلك يقول ابن كثير: "لما مات هشام بن عبد الملك مات مُلْكُ بني أمية وتولى، وأدبر أمر الجهاد في سبيل الله، واضطرب أمرهم جدًّا، وإن كانت تأخرت أيامهم بعهده، نحوًا من سبع سنين، ولكن في اختلاف وهيج، وما زالوا كذلك حتى خرجت عليهم بنو العباس فاستلبوهم نعمتهم وملكهم، وقتلوا منهم خلقًا وسلبوهم الخلافة".
.
موت الخليفة هشام بن عبد الملك:
عن سالم كاتب هشام بن عبد الملك، قال: خرج علينا يوماً هشام وعليه كآبة وقد ظهر عليه الحزن، فاستدعى الأبرش بن الوليد فجاءه فقال: يا أمير المؤمنين مالي أراك هكذا ؟
فقال: مالي لا أكون وقد زعم أهل العلم بالنجوم أني أموت إلى ثلاث وثلاثين من يومي هذا.
قال: فكتبنا ذلك، فلما كان آخر ليلة من ذلك جاءني رسوله في الليل يقول: أحضر معك دواء للذبحة.
وكان قد أصابته قبل ذلك فاستعمل منه فعوفي، فذهبت إليه ومعي ذلك الدواء فتناوله وهو في وجع شديد، واستمر فيه عامة الليل.
ثم قال: يا سالم اذهب إلى منزلك فقد وجدت خفة وذر الدواء عندي.
فذهبت فما هو إلا أن وصلت إلى منزلي حتى سمعت الصياح عليه فجئت فإذا هو قد مات.
.
وذكر غيره: أن هشاماً نظر إلى أولاد وهم يبكون حوله فقال: جاد لكم هشام بالدنيا، وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما جمع، وتركتم له ما كسب، ما أسوأ منقلب هشام إن لم يغفر الله له.
ولما مات جاءت الخزنة فختموا على حواصله وأرادوا تسخين الماء فلم يقدروا له على فحم حتى استعاروا له.
وكان نقش خاتمه: الحكم للحكم الحكيم.
.
وكانت وفاته بالرصافة يوم الأربعاء 24 من ربيع الآخر، سنة 125 هـ ، وهو ابن بضع وخمسين سنة، وقيل: إنه جاوز الستين، وصلى عليه الوليد بن يزيد بن عبد الملك، الذي ولي الخلافة بعده.
.
قال إبن كثير في البداية والنهاية: لما مات هشام بن عبد الملك مات ملك بني أمية، وتولى وأدبر أمر الجهاد في سبيل الله، واضطرب أمرهم جداً، وإن كانت قد تأخرت أيامهم بعده نحواً من سبع سنين، ولكن في اختلاف وهيج، ومازالوا كذلك حتى خرجت عليهم بنو العباس فاستلبوهم نعمتهم وملكهم، وقتلوا منهم خلقاً وسلبوهم الخلافة "
.
وقد كان هشام حريصاً على أن يكون ولي عهده صالحاً قادراً على إدارة هذه الدولة المترامية الأطراف ولكنه ابتلي بولي عهد مشغول في ملذاته و شهواته غير مكترث لأمور الدين والدولة وقد حاول هشام استصلاحه بشتى الوسائل إلا أن ذلك لم يفد معه ففكر في عزله يقول الإمام ابن كثير " وليته فعل " وتولية الخلافة مسلمة بن هشام قال ابن كثير " وليت ذلك تم "إلا أن هشاماً تردد في ذاك لأنه قد عاهد يزيد بن عبد الملك أن يكون ولاية العهد لابنه الوليد بن يزيد فلم يرد هشام نقض عهده لأخيه ... وقد كان الزهري يحث هشاما على خلع الوليد هذا ويستنهضه في ذلك فيحجم هشام عن ذلك خوف الفضيحة من الناس ولئلا تتنكر قلوب الأجناد من أجل ذلك وكان الوليد يفهم ذلك من الزهرى ويبغضه ويتوعده ويتهدده فيقول له الزهري ما كان الله ليسلطك علي يا فاسق ثم مات الزهري قبل ولاية الوليد
.
مراجع الفصل التاسع:
سير أعلام النبلاء، الحافظ الذهبي
د. إيلي منيف شهلة، "الأيام الأخيرة في حياة الخلفاء"، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى، 1998، ص 238.
البداية والنهاية - الجزء 13 ص 17