دراسة تحليلية من كتاب "مآسي الخلافة كنظام للحكم" تحت الطبع لمؤلفه الكاتب المفكر عبد المنعم الخن - (الباب الثاني - الخلافة العباسية - الفصل الخامس .. المبحث الأول: خلافة هارون الرشيد - الخليفة العباسي الخامس)
.
من هو الخليفة العباسي هارون الرشيد؟...
هو أبو جعفر هارون بن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي العباسي ، وأمه أم ولد (أي كانت جارية ولما ولدت صارت حرة ويطلق عليها "أم ولد" بصرف النظر عن عدد الأولاد التي أنجبتها) تسمى الخيزران وهى أم الهادي أيضا , وهو الخليفة العباسي الخامس، الذي يعتبر من أشهر الخلفاء العباسيين., ولد بمدينة الري , المدينة الفارسية والتي لازالت أطلالها قائمة إلى يومنا على بعد كيلومترات من جنوب طهران الحالية.وذلك حين كان أبوه المهدي أميرا عليها وعلى خرا سان في سنة 148هـ .
.
وهو أكثر الخلفاء العباسيين ذكرا في المصادر العربية والأجنبية كالحوليات الألمانية على عهد الامبراطور شارلمان التي ذكرته باسم Aron، والحوليات الهندية والصينية التي ذكرته باسم Alun, أما المصادر العربية فقد أختلفت في تقييمه ووصفه فبعضها أفاضت الكلام عنه حيث قيل أن حياة هارون الرشيد كانت حافلة بالعمل والعبادة والفكر وقد عرف عن الرشيد التفقه ومحبة العلماء ومزاولة الرياضات البدنية والذهنية حتى أنه مارس الشطرنج بشغف واستمرارية ليتعلم ترويض الذهن والصبر وطول البال., ووصفوه بالخليفة الورع المتدين الذي تسيل عبراته عند سماع الموعظة والمجاهد الذي أمضى معظم حياته بين حج وغزو، فكان يحج عاما ويغزو عاما، , ذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: [وحكى بعض أصحابه أنه كان يتصدق في كل يوم من صلب ماله بألف درهم، وكان إذا حج أحج معه مئة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج في كل سنة ثلاثمئة رجل بالنفقة السابغة والكسوة الظاهرة].
وقد أحصى المسعودي سنوات حجه بالناس فكانت: 170، 173، 174، 175، 176، 177، 178، 179، 181، 186، 188هـ .
وقال الذهبي في التاريخ: [سنة تسع وسبعين ومئة وفيها اعتمر الرشيد في رمضان ودام على إحرامه إلى أن حج ومشى من بيوته إلى عرفات].
وقال أبو الفدا في المختصر: [ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومئة وفيها حج الرشيد وأحرم من بغداد].
و قال الغزالي في فضائح الباطنية: وقد حُكي عن إبراهيم بن عبد الله الخراساني أنه قال: حججت مع أبي سنة حج الرشيد فإذا نحن بالرشيد وهو واقف حاسرٌ حافٍ على الحصباء، وقد رفع يديه وهو يرتعد ويبكي ويقول يا رب أنت أنت وأنا أنا، أنا العوّاد إلى الذنب وأنت العوّاد إلى المغفرة، اغفر لي. , وانه أول خليفة عباسي قاد الغزو بنفسه، وقال ابن خلكان عنه في كتابه وفيات الأعيان: "كان من أنبل الخلفاء وأحشم الملوك ذا حج وجهاد وغزو وشجاعة ورأي" وأن الرشيد قد حجّ تسع مرّات ,قال جلال الدين السيوطي في كتاب (تاريخ الخلفاء): أن هارون الرشيد كان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات لا يتركها إلا لعلة , كذلك كان يصفوه بصفة الخليفة الحذر الذي يبث عيونه وجواسيسه بين الناس ليعرف أمورهم وأحوالهم، بل كان أحيانا يطوف بنفسه متنكرا في الأسواق والمجالس ليعرف ما يقال فيها ، وهارون الرشيد هو اول خليفة لعب الشطرنج, واول خليفة لعب الكرة ولعب الصوالجة, واول خليفة رمي النشاب في البرجاس.
قال ابو الحسن المسعودي في كتاب (التنبيه والاشراف): كان كامل الأخلاق سمحاً شجاعاً كثير الحج والجهاد.
.
أما بعض المصادر العربية الأخري فقد وصفته بصورة شارب الخمر الماجن، صاحب الجواري الحسان والليالي الحمراء، السفاح الظالم الذي قتل الآلاف من البرامكة كما سيأتي ذكره لاحقا ، لاهم له سوى الجواري والخمر والسكر، ومقارعة الكؤوس مع ندمائه وسماعه للأشعار الإباحية من شاعره أبي نواس الذي لازمه , وقد نسجوا في ذلك القصص الخرافية والحكايات الواهية .
.
نعم لقد كان هارون الرشيد عاشقا كبيرا. لم يزعجه الوقوف على انكساراته حينما يتحول إلى عاشق. يمارس حبه، بنفس التوقد الذي يظهره على جبهات المعارك، ويعبر إراديا عن الأحاسيس التي تلهمها إياه عشيقاته. بل ذهب به الأمر إلى غاية الاعتراف، بأن رجلا مغرما قد يجازف بافتقاد سلطته أمام النساء. هذا الاعتراف بالضعف، يعد أحد أكبر مفاتنه. من منكم، لم يصبه رعب التحول إلى موضوع للسخرية، حينما يكشف عن حبه لامرأة، لا تبادله أي شعور. ثم، يقف بطريقة متضايقة متجمدا خلف تجاوزاته ؟ هارون الرشيد، لم يرهبه الوقوع في مثل هاته الوضعيات الحساسة.
.
الصفات الجسدية والعلمية والفكرية
قال ابو الحسن المسعودي في كتاب (التنبيه والاشراف): كان تام الخلقة جميلاً طويلاً أبيض مسمناً قد وخطه الشيب له وفرة إذا حج حلقها.
وحسب كل الشهادات، كان جميلا دون أن يجعله ذلك سطحيا أو مزهوا. إنه في جميع الأحوال خليط نادر للبحر الأبيض المتوسط. مؤرخوا الحقبة ـ أغلبهم رجال ـ وصفوه كما يلي : "لون جلده فاتح جدا، طويل، يشع منه وقار كبير وفصاحته تبهر. كما أنه ضليع في العلوم والأدب". كان يظن بأن رشاقة الجسد تتعلق بتلك التي للفكر، وبالتالي تعهد بنمو أحدهما وكذا الآخر.
يعتبر هارون الرشيد "أول خليفة حوّل إلى معطيات جماهيرية، ألعاب البولو Polo، ومباريات الرماية بالقوس، ثم كرة المضرب، ويقدم مكافآت للمتفوقين في هاته التخصصات الشعبية. كان أول خليفة عباسي مارس لعبتي الشطرنج والنرد. ويبدي إعجابه اتجاه أمهر اللاعبين مع منحهم المكافآت والحوافز , إن بهاء ورخاء حكمه، جسد ما يسمى في تلك الحقبة "الأيام الذهبية".
.
توليه الخلافة:
بويع له بالخلافة ليلة مات أخوه، وذلك ليلة الجمعة للنصف من ربيع الأول سنة سبعين ومائة وكان عمر الرشيد يومئذ ثنتان وعشرين سنة، فبعث إلى يحيى بن خالد بن برمك فأخرجه من السجن، وقد كان الهادي عزم تلك الليلة على قتله وقتل هارون الرشيد، وكان الرشيد ابنه من الرضاعة، فولاه حينئذ الوزارة، وولى يوسف بن القاسم بن صبيح كتابة الإنشاء. وكان هو الذي قام خطيباً بين يديه حتى أخذت البيعة له على المنبر بعيساباذ. ويقال: إنه لما مات الهادي في الليل جاء يحيى خالد بن برمك إلى الرشيد فوجده نائماً فقال: قم يا أمير المؤمنين.
فقال له الرشيد: كم تروعني، لو سمعك هذا الرجل لكان ذلك أكبر ذنوبي عنده ؟
فقال: قد مات الرجل.
فجلس هارون فقال: أشر عليّ في الولايات، فجعل يذكر ولايات الأقاليم لرجال يسميهم فيوليهم الرشيد، فبينما هما كذلك إذ جاء آخر فقال: أبشر يا أمير المؤمنين فقد ولد لك الساعة غلام.
فقال: هو عبد الله وهو المأمون.
.
ثم أصبح فصلى على أخيه الهادي، ودفنه بعيساباذ، وحلف لا يصلي الظهر إلا ببغداد.
فلما فرغ من الجنازة أمر بضرب عنق أبي عصمة القائد لأنه كان مع جعفر بن الهادي، فزاحموا الرشيد على جسر فقال أبو عصمة: اصبر وقف حتى يجوز ولي العهد.
فقال الرشيد: السمع والطاعة للأمير.
فجاز جعفر وأبو عصمة ووقف الرشيد مكسوراً ذليلاً.
فلما ولي أمر بضرب عنق أبي عصمة، ثم سار إلى بغداد.فلما انتهى إلى جسر بغداد استدعى بالغواصين فقال: إني سقط مني ههنا خاتم كان والدي المهدي قد اشتراه لي بمائة ألف، فلما كان من أيام بعث إلى الهادي يطلبه فألقيته إلى الرسول فسقط ههنا. فغاص الغواصون وراءه فوجدوه فسرّ به الرشيد سروراً كثيراً.
.
ولما ولى الرشيد يحيى بن خالد الوزارة قال له: قد فوضت إليك أمر الرعية وخلعت ذلك من عنقي وجعلته في عنقك، فول من رأيت واعزل من رأيت.
.
وإلي اللقاء في المبحث الثاني من الفصل الخامس "خلافة هارون الرشيد" , من الباب الثاني "الخلافة العباسية". تابعونا
.
المراجع:
الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد
ابو الحسن المسعودي في كتاب (التنبيه والاشراف)
الغزالي في (فضائح الباطنية)
جلال الدين السيوطي في كتاب (تاريخ الخلفاء)
أحمد مختار العبادي (التاريخ العباسي والأندلسي)
فاطمة المرنيسي(1) - ترجمة: سعيد بوخليط