دراسة تحليلية من كتاب "مآسي الخلافة كنظام للحكم" تحت الطبع لمؤلفه الكاتب المفكر عبد المنعم الخن - (الباب الثاني - الخلافة العباسية - الفصل السادس .. خلافة محمد بن الرشيد الملقب بالأمين - الخليفة العباسي السادس)
.
من هو الخليفة العباسي السادس محمد بن الرشيد الملقب بالأمين؟
الأمين محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي ابن عبد الله بن العباس، وهو سادس الخلفاء العباسيين، تولى الخلافة بين عامي 193 إلى 198 للهجرة 809 - 813 ميلادية, ودامت فترة حكمه خمس سنوات تقريبا وأهم ما ميز عهده هو النزاع الذي قام بينه وبين أخيه المأمون كما سيأتي ذكره.
.
سماته
عاش الأمين في وسط مترف لذلك كان قليل الصرامة وكان هذا بعيدا عن أخلاق العباسيين الأوائل الذين عرفوا بالقسوة والشدة, ويروى أن أحد أتباع الأمين أنه التمس منه أن يقبض على ولدي المأمون الذين كانا في بغداد, وأن يهدد بهما المأمون, فغضب الأمين عند سماعه ذلك وقال "وتدعوني إلى قتل ولدي وسفك دماء أهل بيتي ان هذا لتخليط", والى جانب ذلك فان الأمين كان رجلا مثقفا واسع الاطلاع في اللغة والفقه والأدب والتاريخ وقد شهد بذكائه اساتذته الذين أشرفوا على تعليمه كالكسائي والأصمعي لهذا كان للأمين موضعا لمديح ورثاء شعراء عصره أما عن صفاته الشخصية قال ابو الحسن المسعودي في كتاب (التنبيه والاشراف): كان حسن الوجه تام القامة أبيض مسمناً صغير العينين بعيد ما بين المنكبين شديداً في بدنه.
..
أحواله قبل توليه الخلافة
كان هارون الرشيد قد عهد بولاية العهد للأمين وللمأمون من بعده, ففي سنة 186هـ حج الرشيد ومعه ابناؤه الأمين والمأمون وهناك في البيت الحرام أخذ عليهما المواثيق المؤكدة بأن يخلص كل منهما لأخيه وأن يترك الأمين للمأمون كل ما عهد اليه من بلاد المشرق, ثغورها وكورها وجندها وخراجها وبيوت أموالها وصدقاتها وعشورها وبريدها, وسجل الرشيد هذه المواثيق على شكل مراسيم وعلقها في الكعبة لتزيد في قدسيتها, ويؤكد تنفيذها كما كتب منشورا عاما بهذا المعنى للآفاق. وبذلك ضمن ألا خلاف يصير بينهما وياليت هذه الضمانة قد تحققت , إنما الذي تحقق العكس تماما كما سيأتي.
.
توليه الخلافة
في 3 جمادى الاخرة 193ه الموافق 24/3/809م اصبح الامين هو الخليفة ولكن لم تكمل مراسم الخلافة الا في منتصف جمادى الاخرة 193ه الموافق4/4/809م بعد إرسال أخيه صالح إبن الرشيدالبردة والقضيب والخاتم بصحبة رجاء الخادم ، يوم الخميس 14 من جمادى الآخرة فركب الأمين من قصره بالخلد إلى قصر أبي جعفر المنصور الذي يقال له قصر الذهب على شط بغداد وكان ذلك يوم الجمعة النصف من جمادى الآحرو ، فصلى بالناس ثم صعد المنبر ، فخطبهم ، وعزاهم في الرشيد ، وبسط آمال الناس ، ووعدهم الخير ، فبايعه الخواص من قومه ، ووجوه الأمراء ، وأمر بصرف أعطيات الجند عن سنتين ، نزل وأمر عمه سليمان بن أبي جعفر أن يأخذ البيعة له من بقية الناس ، فلما انتظم أمر الأمين ببغداد ، واستقام حاله فيها , ثار الخلاف بينه وبين أخيه المأمون ولي العهد من بعده علي نحو ما سأذكره.
.
وكان اول قرار اتخذه الامين بعد تولي الخلافة سنة 193هو تجهيز جيش لغزو بلاد الروم, وقد أعطى المجاهدين مالا عظيمًا, وأمر يتوجيه جيشه لغزو الروم، وقام بتقوية منطقة الثغور المحاذية للروم, فقام بتدعيم مدن الثغور بالمال والسلاح والرجال، وأمر أيضا ببناء مدينة أضنة وأحكم بناءها وتحصينها، وندب إليها الرجال لسكناها، أما فيما عدا ذلك، فقد مرت خلافته في صراع بينه وبين أخيه المأمون من أجل الخلافة، انتهى بقتل الأمين وانفراد المأمون بالحكم.
.
الخلاف بين الأمين والمأمون
بدأ النزاع على شكل مراسلات وسفارات متبادلة بين الأخوين حول مشكلة العهد المعلق في الكعبة, فالمأمون يرى التمسك بنصوص هذا العهد الذي يقضي بالاستقلال بشؤون خراسان خلال حكم أخيه الأمين, أما الأمين فيرى نفسه خليفة للمسلمين ويستطيع التصرف في أمور خراسان كما تقضي بذلك المصلحة العامة وأن النص على ولاية المأمون لخراسان لا يعني استقطاع هذه الولاية من الخلافة نهائيا بل ينبغي أن يكون للخليفة شيء من النفوذ وذلك بأن يضع على خراسان بريدا, لهذا طالب الأمين بوضع نظام للبريد تابع له في خراسان لكن المأمون رفض.
و لاشك أن مطامع رجال الحاشية في بلاط كل من الأمين والمأمون كانت من العوامل التي زادت في اتساع الخلاف بين الأخوين, فالفضل بن الربيع ينصح الأمين بأن يستدعي أخاه المأمون إلى بغداد حتى يظفر به كرهينة ويفصل بينه وبين جنده, والفضل بن سهل يوعز إلى المأمون بالاعتذار عن الذهاب إلى بغداد بحجة أن أمور خراسان تستدعي البقاء فيها, وهنا طلب الأمين من المأمون أن يتنازل له عن بعض كور خراسان بحجة أن مال خراسان يكفيها, أما مال العراق فلا يكفيه, إلا أن المأمون رفض ذلك الطلب. وغضب الأمين من رفض المأمون لمطالبه وأرسل اليه رسالة يخيره فيها بين الاذعان لشروطه أو التعرض لنار لا قبل له بها, ولكن المأمون لم يأبه لهذا التهديد ورد عليه بأنه لايخشى في الحق لومة لائم.
.
فشلت المفاوضات السلمية التي كانت قائمة بين الأمين والمأمون, مما جعل الطرفان يحتكمان للحرب, ففي أوائل سنة 195 هـ أعتبر الخليفة الامين ان المأمون نقض العهد, فأمر بوقف الدعاء للمأمون وأعلن البيعة لابنه موسى ولقبه بالناطق بالحق, ونقش اسمه على السكة وكان هذا بمثابة خلع المأمون, ثم بعث من سرق الكتابين بالكعبة وحرقهما, وأمام هذا الاعلان رأى المأمون أن يستعد للحرب فجهز جيشا كبيرا وحشده على حدود خراسان في منطقة الري, وولى عليه قائدين من أتباعه المخلصين وهما طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين الذي يرجع اليه الفضل في اعداد جيش المأمون اعدادا قويا, أما الأمين فقد اختار علي بن عيسى بن ماهان أحد كبار رجال الدولة الذي كان واليا على خراسان في عهد الرشيد, تقدم بن ماهان نحو الري لقتال طاهر بن الحسين دون أن يستعد له استعدادا كافيا وذلك لأنه كان يستهين بشأن طاهر لحداثته, وانتهت المعركة بانتصار جيش طاهر بن الحسين ومقتل علي بن عيسى بن ماهان سنة 195 هـ، أرسل الأمين جيوشا أخرى عديدة إلى الري ولكن مصيرها كان الهزيمة وقد استنفذت هذه الجيوش موارد الأمين فلم يستطع تحريك جيوشا أخرى وهنا تتحول الحرب من مداخل خراسان إلى مداخل العراق
.
قال ابو عبد الله شمس الدين الذهبي في كتاب (سير اعلام النبلاء): قام الأمين بإرسال جيش على رأسه علي بن عيسى بن هامان إلى الري للاستيلاء عليها. ووصلت هذه الأخبار إلى المأمون فدفع لمواجهتهم طاهر بن الحسين الذي خرج بالجيش الذي أعده المأمون وعسكر به خارج الري ، والتقى الجيشان ودارت بينهم معارك عدة، فهزم جيش الأمين وقتل علي بن عيسى، وبسرعة كتب طاهر إلى المأمون يخبره قائلا: رأس علي بن عيسى بين يدي وخاتمه في إصبعي وجنده تحت إمرتي والسلام وكانت هذه المعركة هي البداية، إذ سرعان ما تطورت الحال بين الطرفين، فقد سارع الأمين لإرسال جيش من عشرين ألف مقاتل على رأسهم عبد الرحمن بن جبلة الأنباري إلى همذان، وقد ولاه عليها وعلى كل ما يفتحه من أرض خراسان. وما إن وصل عبد الرحمن إلى همذان حتى رمم سورها وتحصن بها لكن كل هذه الإجراءات لم تعطه أي نتيجة، فقد سارع إليه طاهر بن الحسين بجيشه واقتتلوا فظفر بهم طاهر بن الحسين وقتل عبد الرحمن وتفرق جمعه، وفر جنوده لا يلوون على شيء وفي الطريق التقى الجنود الفارين بجيش آخر كان الأمين قد أرسله لنجدة عبد الرحمن، وحين التقى الجمعان دبت روح الهزيمة فيهم جميعا فعاد الجميع إلى بغداد دون قتال.
.
قال ابن كثير في كتاب (البداية والنهاية): بعد خلعه من ولاية العهد قام المأمون بتجهيز جيشا كبيرا وحشده على حدود خرسان في منطقة الري, وولى عليه قائدين من أتباعه المخلصين وهما طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين الذي يرجع اليه الفضل في اعداد جيش المأمون اعدادا قويا, أما الأمين فقد اختار علي بن ماهان, أحد كبار رجال الدولة الذي كان واليا على خراسان في عهد الرشيد, ليكون قائدا على جيش معظمه من عرب البادية قوامه ثمانين الف.
.
قال ابو الحسن المسعودي في كتاب (التنبيه والاشراف): الامين سرح علي بن عيسى بن ماهان في خمسين ألفاً بأعظم ما يكون من القوة والعدد ليجيئه بالمأمون فندب المأمون للقائه طاهر بن الحسين... فنزل الري وسار علي بن عيسى حتى قرب منهما فالتقيا فاقتتلا قتالاً شديداً فقتل علي بن عيسى وفضت جموعه واحتوى على عسكره وذلك لعشر خلون من شعبان سنة 195ه وسمي طاهر ذا اليمينين وسار طاهر يفتح بلداً بلداً ويكسر من تلقائه الجيوش إلا أن نزل حلوان فلحق به هرثمة بن أعين في جيش كثيف وكتب إليه المأمون أن يخلي بين هرثمة وبين المسير إلى مدينة السلام ويسير هو إليها على طريق الأهواز فسار هرثمة حتى نزل ظاهر الجانب الشرقي من مدينة السلام وسار طاهر فافتتح الأهواز وواسط والمدائن واحتوى على الكوفة والبصرة.
.
وذكرت بعض كتب التاريخ أن الخلاف بين الأخوين كان سببه قيام المأمون بالتصرف في خرسان بشكل مستقل تماما, بحجة ان الرشيد ولاه المشرق بشكل كامل وهذا خطأ ولم يكن هذه الامر الا تمسك بها المأمون ليتصرف بشكل مستقل تماما عن اخيه الامين, حيث انه عندما قام الخليفة هارون الرشيد بكتابة العهد بتعيين المأمون والي على المشرق, لم يكن قطعا يقصد تقسيم الدولة, لأن تقسيم الدولة هو بداية نهايتها, ومن غير المعقول ان يسعى الرشيد لهدم الدولة الاسلامية التي حافظ عليها هو وسابقيه, ولو كان يقصد ذلك لكتب في العهد بوضوح انه ليس للخليفة شيء في خرسان, بل كان يقصد من تولية المأمون لبلاد المشرق هو ان يكون لكلاهما قوته ليتم الحفاظ على ترتيب ولاية العهد, وكذلك ليستطيع المأمون عمل فتوحات اضافية في الشرق, كما انه من حق الخليفة ان يستدعي ولاته ليعينوه على امر معين يخص الدولة, وعندما طلب الامين ان يأتي اليه المأمون رفض المأمون الحضور فازداد الخلاف.
.
.محاولة انقلاب الحسين بن علي بن عيس .
بعد الهزائم المتكررة سادت الفوضى والاضطراب في بغداد عاصمة الخلافة؛ وقام الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان باستغلال ذلك بقيامه بعمل انقلاب ضد الخليفة الأمين، وأعلن خلعه من الخلافة، وحبسه هو وأمه زبيدة في قصر المنصور في رجب 196 ه الموافق مارس 812م، وأعطى بيعته للمأمون، لكن فريقًا من أنصار الأمين استطاعوا تخليصه من الأسر، وأعادوه إلى قصر الخلافة, وما ساعد انصار الامين على ذلك عدم قدرة ابن ماهان على حل مشكلة الرواتب.
.
حصار بغداد ونهاية الأمين
تقدم الجيش الخراساني نحو بغداد, حيث اتفق طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين على أن يقوم الأول بمهاجمة بغداد من الغرب بينما يهاجمها الثاني من ناحية الشرق, وتقدم الجيشان حتى بلغا أرباض بغداد حيث حدثت معارك مختلفة بين قوات الأمين وقوات المأمون ولم يكن جيش الأمين قويا كما لم يكن قواده في حالة معنوية عالية, فقد استمالت قوات المأمون بعض قادة جيش الأمين بالهدايا والهبات فانضموا اليه واحدا بعد الاخر , غير أن الذين قاوموا هذا الحصار هم أهل بغداد وبالأخص "جماعة العيارين" أو الفتيان وهي مجموعة من مختلف الطوائف والمذاهب الإسلامية المختلفة ومن الأغنياء والفقراء لكن كان أغلبهم من أبناء الأسر الفقيرة. ولقد دافع العيارون عن بغداد ببسالة نادرة وضربوا أمثلة رائعة في الصمود والشجاعة, وعلى الرغم من مقاومة هذه المجموعة, فقد استطاعت جيوش المأمون أن تضرب حصارا حول بغداد, فاشتد الجوع بالأهالي لدرجة أن الأمين صرف كل ما لديه من أموال على جنوده واضطر إلى طلب الأمان والتسليم . وفضل الأمين أن يسلم نفسه للقائد هرثمة لكبر سنه من جهة ولقسوة طاهر بن الحسين من جهة أخرى وخرج الأمين وأتباعه عابرين نهر دجلة في سفينة صغيرة لم تلبث بفعل الزحام أو بفعل طاهر أن انقلبت واستطاع الأمين أن يسبح إلى الشاطيء وهناك أسره الجنود الخراسانيون وقتلوه بأمر من طاهر وبذلك تنتهي خلافة الأمين, وتولى المأمون الخلافة
.
المراجع
البداية والنهاية لإبن كثير صفحة 50 و51 و52 و53
سير اعلام النبلاء لأبي عبد الله شمس الدين الذهبي
التنبيه والإشراف لأبي الحسن المسعودي
تاريخ الخلفاء للسيوطي
في التاريخ العباسي والأندلسي, الدكتور أحمد مختار العبادي ص100